السبت، 31 يوليو 2021

أيوب , اللقاح والآخرون.


 


كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا حين وصلت مع شهاب ووالدته إلى مصلحة طب الأطفال مرضى السرطان بمستشفى قسنطينة الجامعي في هذا اليوم الحار من صيف 2018. كان شهاب على موعد مع حصة علاج كيماوي كعادته كل يوم ثلاثاء من كل اسبوع. دفعنا بطاقة المواعيد للممرضة و جلسنا ننتظر دورنا بعد أنا أضعنا كثيرا من الوقت في إجراء تحاليل الدم التي يطلبها الأطباء في المستشفى قبل إخضاعه للعلاج الكيماوي. 

    مرت ساعة على وصولنا سمعنا خلالها من صراخ الأطفال المرضى خاصة اولائك الذين يأخذون الحقن في ظهورهم. اعمارهم تتراوح بين العامين و  العشر سنوات و أغلبهم قادمون من القرى النائية في جيجل و سكيكدة و الوادي و ميلة وكلهم ترافقهم أمهاتهم فالأطباء هنا قليلا ما يقبلون طفلا بدون مرافقة والدته لأنهى اأدرى بحالة طفلها و ذاكرتها تحفظ مواعيد الدواء و تواريخ الحقن و ما أكثرها.

    هنا و في هذه المصلحة و في انتظار حلول موعد الفحص و العلاج  الذي تتولاه طالبات الطب المتربصات تغتنم الأمهات تبادل الوصفات العلاجية التقليدية الناجحة و أرقام هواتفهن. هنا لا تسمع حديثا عن وصفة طبخ او تصميم فستان أبدا. هنا ترتعد فرائصهن حين يسمعن بموت أحد الأطفال بسبب المرض او بسبب العلاج الكيماوي و قد كانت الممرضة صونيا تتكفل بإخبارهن بالوفيات إذا ما لاحظت تهاونا من أولياء المرضى. كانت أخبار وفيات  المصلحة تنزل على الأمهات كالصاعقة فيسرعن لإخبار الزوج لتقاسم هولها. 

      جلس بجانبي رجل اعتدت على مشاهدته كلما ذهبت هناك. كان دائما يرافق ابنه المصاب بسرطان الدم مثل شهاب. حفظت اسمه عندما كانت تنادي عليه الطبيبات لأخذ الحقن و الفحص. كأن إسمه ''أيوب'' وقد وُفق والداه في اختيار الإسم فالتكفل بحالته يتطلب صبرا كصبر النبي أيوب عليه السلام. نودي على شهاب بعد أيوب مباشرة برفقة والدتيهما. 

 -  أنت والد شهاب. صح؟

- نعم. انا والده.

- أنا أبو أيوب. هذاك الذي نودي عليه مع شهاب. انا من عين فكرون.

-متشرفين. نعم أعرفها و زرتها عدة مرات. نحن من الطاهير. 

- خيار الناس. والله أتعبني هذا الطفل. إنه صعب المراس..خشن الراس. تصور إنه لا يتناول دواءه إلا بعد أن يخرجني أنا ووالدته من الملة. 

- بالعقل عليه ...يا صاحبي  ...إسم مرضهم يخيف عند سماعه فما بالك أن تمرض به. الدواء هنا كارثة .تذكر مذاق دواء Prednisone

إنه امرّ من العلقم. 12 حبة مرة واحدة ليس امرا سهلا. الله يكون معهم.

- إنه لا ياكل حتى ولو حضّرت له ما لذ وطاب.  إنه يفقدني أعصابي حين يرفض الأكل. والدته أصيبت بمرض السكري بسببه.

- هوّن عليك يأ أخي.الأمر ليس بيده. فقدان الشهية سببها المرض و العلاج. 

- إنّا نحاول. ربي يكون معنا. قل لي. نسقيك. شهاب كان عمره 12 سنة حين مرض أليس كذلك؟

- فعلا.العام الماضي.2017

- أخذ لقاح الحصبة الألمانية في المتوسطة في مارس.

- نعم . لكن لم السؤال؟

- أنتظر. ظهر عليه المرض في جويلية. صح؟

- والله صح. في 12 جويلية أظهرت التحاليل ذلك. و لكن كيف عرفت؟

- شهاب ليس الوحيد. اخبرتني طبيبة هنا أن هناك أربع حالات مثل إبنينا شهاب و أيوب أخذوا لقاح الحصبة الألمانية و أصيبوا بسرطان الدم اللمقاوي.  السبب هو اللقاح.

   هنا قطعت أم أيوب حديثنا و طلبت من زوجها إحضارأغراضها و أغراض أيوب من السيارة لأن حالة أيوب لا تسر و سيمكث بالمستشفى لأيام. ودّعني الرجل و قد تغير لون وجهه بعد سماعه الخبر.

     انتظرت الرجل ليكمل بقية التفاصيل لكنه لم يعد. أخذ شهاب حصته من العلاج الكيماوي و حقنة الظهر و خرح و هو يتلوى من الألم. صعدنا الى السيارة و قفلنا راجعين إلى الطاهير و ليس في ذهني سوي كلام أبي أيوب عن لقاح الحصبة الألمانية الذي استوردته وزارة الصحة و أرادت فرضه على الجزائريين الذين رفض معظمهم أخذه رغم إجباريته ثم تراجعت وزارة التربية عن فرضه و ترك الأمر للتلاميذ في تناول اللقاح. كان شهاب من القلائل الذين أخذوه في متوسطة لبيض بالطاهير. في مارس 2017. 

      قضيت أسبوعا في البحث في الانترنت عن الآثار الجانبية للقاح الحصبة الألمانية في المواقع الصحية الأمريكية و البريطانية فوجدت أنها كلها تجمع على له آثار خطيرة على الصفائح الدموية و كريات الدم البيضاء و أن أغلبية من أخذوه أصيبوا بسرطان الدم اللمفاوي.

     عدت بعذ ذلك الاسبوع لقسنطينة في الموعد مع شهاب على أمل اللقاء بأبي أيوب و اخبره بما وجدت لكن الممرضة فاجأتني بخبر وفاة أيوب بسبب مضاعفات العلاج الكيماوي. . 

    في أواخر 2020 أصيب تلميذ آخر بنفس المرض كان زميلا لشهاب في نفس المدرسة و أخذ نفس اللقاح و هو يتابع العلاح الكيماوي حاليا. رحم الله أيوبا ورزق جميع المرضى الصحة و العافية و حسبنا الله و نعم والوكيل.





 


-

الأربعاء، 28 يوليو 2021

الفرشيطة و اللقاح

  


   انتظرت أن تخف حرارة الجو قليلا و خرجت اتبضع من شارع المجاهدين بمدينتي. ما زالت الشمس تلفح وجوهنا بحرارتها بينما تكفلت الرطوبة بالباقي. اختفت حركة السيارات بالشارع حيث أقيم على غير عادتها في هذا الوقت. لم يتطلب الأمر وقتا كثيرا كي يبدأ جسمي في التصبب عرقا رغم الحمام البارد الذي أخذته قبل الخروج من البيت.

     قطعت شارع المجاهدين أريد  الصيدلية  فلاحظت غياب المارة الذين من عادتهم ملء هذا الشارع التجاري الشهير في مدينة الطاهير جيءة  و ذهابا.. الطريق المؤدية الى وسط المدينة بدت و كأنها تعيش حظرا للتجوال ما عدا بعض المتسوقات اللواتي حرصن على ارتداء الكمامات خوفا من الوباء اللعين. ألقيت السلام على أحد أصحاب المحلات الذي لاحظت خروجه و دخوله المتكرر إلى محله و هو ينظر يمنة و يسرة كأنه يتأكد إن كانت الحركة غائبة فعلا في هذا الشارع.

- و عليكم السلام..صحيت الشيخ

- واش الحالة ؟ لاباس؟

- و الله ما تشكر يالشيخ. هي خالية من بكري و زادت اليوم .

- ربي يجيب الخير...المهم الصحة برك. اليوم هواول أيام الحجر الله المستعان. 

-اللهم آمين.

    أسرعت الخطى حتى لا أسمح له بفتح موضوع آخر فالرجل أعرفه كثير الكلام يهرف بما لا يعرف ويهذي بما لا يدري. دخلت الصيدلية ألقيت السلام و طلبت كمامة. اسرعت الصيدلية في توفيرها شعرتُ وهي تخبرني بسعرها أنها تستعجلني للخروج من الصيدلية. أسرعت بمسح القطعتين النقديتين بقطعة قماش مبللة قبل ان تضعهما في صندوق المحل.

    ارتديت الكمامة خارج الصيدلية و توجهت إلى البقالة حيث اعتدت التبضع. كنت أعتقد أن المحل على غرار الصيدلية اتخذ كل التدابير الاحترازية لكن هيهات. لم يكن البائع يضع الكمامات و لم يكن هناك لا سائل مطهر و لا قطعة القماش التي تستعمل في تطهير النقود. اشتريت ما خرجت من أجله و دفعت ثمنه و قبل أن أخرج عالجني البائع بسؤال عن الوضعية الصحية:

- كيفاش تشوف الحالة ياشيخ؟

- الله المستعان. ربي يستر من اللي جاي..أرانا على غير استعداد لهذه الموجة.

- ما دام الوفيات ماكانش بزاف...ما نخافوش. 

- ربي يقدر الخير...الله يعاونك.

- مع السلامة الشيخ.

     قطعت الطريق أريد شاحنة تبيع الدلاع. قلت في نفسي في هذا اليوم ذي الحر االشديد ما ينفعنا سوى دلاعة حمراء قانية تخرجها باردة  من الثلاجة و تلتهمها مباشرة بعد العشاء. كنت بصدد إلقاء التحية لما رأيت البائع الشاب يعطس العطسة تلو الأخرى دون أن يستعمل كوعه في ذلك.مسح يده المبللة في سواله و نظر إلي وكأنه كان يعرف نيتي قبل عطساته. انحرفت يسارا و تجاهلته قبل أن يوقفني احد أصدقائي.

- صحيت الشيخ احسن. ما راكش تبان.

- اهلا صديقي..كيف الأحوال؟

- الحمد لله. راك محصن يا صاحبي. الكمامة حسب المعايير.

- واجب صديقي. هكذا و ما نعرف.

- الحالات تتزايد.ربي يستر. الواحد يجب أن يتخذ احتياطاته. حتى الأوكسيجين و قطعوه.

-واش ؟ ما درتش اللقاح؟

- هههه...عن أي لقاح تتكلم؟ مهبول نديرلقاح يصبح جسمي مغناطيسي. 

- واش حكاية المغناطيس هذه...والله ما سمعت بها.

- انت ما راكش عايش. يقولون أن من أخذ اللقاح أصبح جسمه مغناطيسيا. يعني تضع فرشيطة -شوكة- على موضع الحقنة تلصق.

- آو..وقتاش هذه؟ هذه أول مرة أسمع بهذا الأمر. دعني أذهب.لدي أمر مستعجل. 

      ودعت صديقي و أنا أضرب أخماسا في أسداس على ما سمعته. كيف لي بعد الأن أن أدخل إلى محلات الأواني المنزلية؟ ماذا سأفعل بمواعين المطبخ  الحديدية في بيتي؟ 

الاثنين، 24 مايو 2021

أطول رحلة في حياتي

                             

     وُلدت و ترعرعت في جنوب إسبانيا في قرية صغيرة تُسمّى إستيبونا Estepona. كنت في السادسة عشرة من عمري عندما طلب مني والدي قيادة السيارة ليتنقل إلى قرية نائية تدعى ميخاس Mijas, تبعد حوالي 16 كلم عن قريتنا, شرط أن آخذ السيارة لإصلاحها عند ميكانيكي غير بعيد عن تلك القرية. و لأنني كنت حديث العهد بالسياقة و بالكاد كنت أحصل على فرصة لقيادة سيارة والدي فقد وافقت على الفور. قدت السيارة إلى حيث أراد والدي في ميخاس ووعدته أن أعود إليه لآخذه إلى البيت على الساعة الرابعة مساء. و فعلا نقلت السيارة إلى الميكانيكي  كما طلب أبي. كان لدي متسع كبير من الوقت فقررت أن أقضيه في مشاهدة بضعة أفلام في سينما القرية.  ومن شدة تأثري بتلك الأفلام غرقت في تفاصيلها لأنسى موعد أبي تماما. نظرت إلى الساعة فإذا بها تشير إلى الساعة السادسة مساء.  يا للهول كنت متأخرا بساعتين.

      كنت أعلم أن والدي سيغضب مني لو عرف أني قضيت ذلك اليوم في مشاهدة الأفلام.  لن يمنحني فرصة قيادة سيارته مجددا. فكرت و قدرت ثم قررت أن أُخبره أن إصلاح السيارة تطلب وقتا أكبر بسبب أعطاب أخرى وجدها الميكانيكي غير تلك التي كان يعتقد أبي. ذهبت إلى المكان حيث اتفقت مع والدي أن نلتقي فوجدته في زاوية منعزلة وقد نفذ صبره من كثرة الإنتظار. اعتذرت منه طبعا و أخبرته أنني عدت إليه مباشرة بأسرع ما يمكن بعد أن أنهى المكانيكي عمله و أنه عثر على أعطاب أخرى تطلّب إصلاحا كل ذلك الوقت. لن أنسى ما حييت نظرات أبي إلى و أنا أبرر له سبب تأخري.

- أشعر بالخيبة لأنك وجدت نفسك مجبرا على الكذب علي يا بُني.

- ماذا تعني يا أبي؟ أنا أقول الحقيقة يا أبي.

   رمقني أبي شزرا ثم قال.’ عندما تاخرت في العودة اتصلت بالميكانيكي  لأستفسر عن سبب تأخرك , فأخبروني هناك انك لم تعد بعد لأخذ السيارة. إذن و كما ترى لم يكن هناك أعطال أخرى في السيارة كما أخبروني انك لم تعد لأخذ السيارة في الموعد المحدد''. شعرت بقشعريرة تسري في سائر جسدي لم أشعر بها من قبل.  لقد كان شعورابالذنب لأني كذبت على والدي ولم أخبره بحقيقة ذهابي الى السينما و سبب تأخري. لقد كان أبي يستمع إلي و أنا أقص عليه تلك الأكاذيب و علامات الأسي تغمر وجهه.

    - " لست غاضبا منك يا بني بقدر غضبي من نفسي. كما ترى, أدركت أخيرا أني فشلت كأبِ بعد كل هذه السنوات أجدك تشعر بالحاجة للكذب علي.  لقد ربّيت ولدا لا يستطيع أن يقول الحقيقة حتى لوالده. سوف اعود إلى البيت الآن و أفكر في أين أخطأت خلال  كل هذه السنوات''

- لكن يا  أبي...البيت بعيد عنا الآن. انت في ميخاس 16 كلمترا عن بيتنا. الوقت ليل. لا يمكنك العودة مشيا على الاقدام.

     لم تنفع احتجاجاتي ولا اعتذاراتي و لا كل ما قلته عن ثني أبي عن قراره. لقد خذلت أبي. كنت بصدد تعلم واحد من أقسى الدروس التي تعلمتها في حياتي. انطلق أبي في رحلة العودة غلى البيت ماشيا عبر تلك الطرقات المهترئة التي كان يكسوها الغبار. صعدت بسرعة إلى السيارة و سرت وراءه على أمل أن يتراجع عن قراره. توسلت إليه معبرا له عن ندمي على فعلتي التي فعلت  لكنه واصل السير  في صمت, شارد الذهن,  متجاهلا كل ذلك.  واصلت قيادة السيارة خلفه لمسافة 16 كلم لأقطعها في خمس ساعات.

    لقد كانت مشاهدة أبي على تلك الحال كاسف البال منهك البدن التجربة الأكثر قسوة  لكنها كانت أيضا الدرس الأكثر نجاحا في حياتي. لم أكذب عليه منذ تلك اللحظة.

                                    ترجمها عن الاسبانية : أحسن بوفليغة.


السبت، 6 فبراير 2021

ليلة رعب في قسنطينة -3-

   
  استشاط الجميع غضبا. منهم من حاول مغادرة المطار لكن تدخل قوات الأمن كان سريعا دون عنف. قدم إلينا ضابط المناوبة و أقنعنا بعدم جدوى مغادرة المطار الآن لأن موعد حظر التجوال أصبح ساري المفعول ابتداء من الساعة العاشرة. أما من حاولوا اقتحام أبواب الإدارة فقد تم صدهم عنوة. 


- لا تحاول يا أخي .  في هذه المرحلة أياك أن تستعمل العنف فالكل يعيش على أعصابه و أي تجاوز سيلقى ردا عنيفا...تأجيل الرحلات يحدث أيضا في أكبر المطارات في الدول المتقدمة.

    لم يكد الرجل الذي جاوز الخمسين من العمر يكمل كلامه حتى حاصره المسافرون الغاضبون و هم يصيحون في وجهه:

- هذا واحد منهم.إنه من الحس المدني. 

- لباسه يدل عليه. إنه يعمل مع الدولة. قفوه إنه مسؤول.

    تراجع الرجل بعد أن شعر بأن الأمور تكاد تخرج عن السيطرة فانقلب على عقبيه ينتقد قرارات الشركة و لولا أن تدارك نفسه لشتم حتى رجال الأمن الذين احاطوا به لحمايته من الجموع الغاضبة من كلامه.

    انسحب الرجل إلى مكان و أخاله ندم أن فتح فاه  للكلام.

     توجهت مع الجمع الغاضب إلى بوابة  إدارة الخطوط الجوية الجزائرية محاطين برجال الشرطة الذين كانوا يتوسلون إلينا عدم استعمال العنف. بعد لحظات خرج علينا رجل بدا في الستين من العمر و هو يرتدي بدلة أنيقة تدل على أنه مسؤول كبير بالشركة فاخذ يطلب منا الهدوء بفرنسية جميلة حاول أن يخلطها بكلمات عربية حتى يفهمه الجميع كما قال.

   - ظروف قاهرة هي وراء التأخير. أمنحوناربع ساعة أخرى لا أكثر و ستغادرون الى الطائرة دون انتظار.أرجوكم.بهدوء. 

          انتفض الجميع في وجهه مشككين في وعوده.

   - كيف نصدقكم و أنتم تتلاعبون بنا منذ السابعة. لسنا أطفالا. ألا تشعرون بهؤلاء الأطفال الأبرياء و أمهاتهم؟ ويحكم.

   صاح أحد الشباب و هو في قمة الغضب بلهجته السكيكدية. ثم تبعه آخر و هو يهدد بارتكاب جريمة إذا لم تقلع الطائرة في الحين.

   - كلا يا أخي. لا داعي  لمثل هذا الكلام. انتظروني دقيقة. 

    رفع جهاز الللاسلكي  و أخذ يستمع إلى ما بدا أنها تعليمات  من مسؤوليه . 

  -حسنا ..أدخلوا الى قاعة الانتظار. ستصعدون للطائرة. هيا من فضلكم. أسرعوا.

   هرع الجميع الى بوابة قاعة الانتظار فيما طلب المسؤول من الشاب الذي هدد بارتكاب جريمة إن لم تقلع الطائرة أن يتريث. أخبرني الشاب لاحقا أن المسؤول لامه على ما قاله ثم شرح له الوضعية البائسة التي يعملون فيهاخاصة في ظل حظر التجوال و قوانين الطوارئ. شعر الشاب أنه أخطأ في حقه فاعتذرمنه و أسرع إلى قاعة الانتظار.

     دخل الجميع إلى قاعة الانتظار فرحين مستبشرين بحل مشكلتهم. نظرت الى الساعة فوجدتها تشير الى العاشرة و النصف. كان علينا أن ننتظر ربع ساعة أخرى قبل أن تتوقف حافلتان أمام قاعة الانتظار ثم قام  احد مضيفي الطائرة بفتح باب القاعة و يطلب منا الصعود إلى الحافلة. كان الجو ماطرا و شديد البرودة.فعلق أحد المسافرين على ذلك  قائلا:

- اتصلت بعائلتي في قسنطينة منذ قليل فأخبروني أن الثلوج بدأت تتهاطل على المدينة.  

     سمعت كلامه فبدأت فرائصي ترتعد لأن ملابسي أنا القادم من أسخن بقعة في العالم كانت خفيفة جدا.

    تحركت الحافلات لتتوقف أمام طائرة البوينغ بعد برهة . نزلنا بانتظام لنقوم بالتعرف على حقائبنا كإجراء وقائي قبل أن يتم شحنها على الطائرة. صعدنا إلى الطائرة و أسرع كل واحد إلى حجز مقعده و كأنه غير مصدق أنه سيسافر بعد قليل. اخذت مكاني بجانب النافذة قبل أن يستأذنني أحد المسافرين بأخذ مكاني بجانب النافذة لأنه تعود على الجلوس هناك.

- انا أيضا متعود على الجلوس بجانب النافذة.

    أجبته قبل أن أركز في ملامحه فإذا به أحد الأساتذة الذين كنت أحترمهم و أقدرهم كثيرا حين كنت طالبا بمعهد اللغات بجامعة قسنطينة. 

- تفضل ياشيخ. 

- شكرا جزيلا .سامحني على الإزعاج.

- دونت مايند يالشيخ. 

-و هل تعرفني؟

-طبعا يالشيخ. ألست أستاذ اللسانيات بكلية اللغة الإنجليزية بجامعة قسنطينة؟ الشيخ بغول؟

- آه. أنت من طلابي...كنت أسأل نفسي أين شاهدتك من قبل؟

- لا يا شيخ. لم أكن أبدا من طلابك.



 

 

 


 

الخميس، 28 يناير 2021

ليلة رعب في قسنطينة -2-

 

" تشرع طائرة الخطوط الجوية الجزائرية في الهبوط بمطار هواري بومدين بالجزائر العاصمة لذلن يرجى من المسافرين الكرام ان يبقوا جالسين في مقاعدهم وربط أحزمتهم."  كانت كلمات مضيف الطائرة كافية ليصمت الجميع استعداد للمغادرة الطائرة بعد رحلة شاقة دامت أكثر من خمس ساعات.  ناديت على مضيف الطائرة لأسلمه مجلته لكنه رفض أخدها طالبا مني الاحتفاظ بها. شكرته على كرمه وودعته متمنيا له نهاية أسبوع مريحة.

        نزلنا من الطائرة لنستقل الحافلة التي ستقلنا الى بهو المطار. كان الجميع يسرع الخطى سألت عن السبب فأخبرني أحدهم أن حظر التجول ما زال ساري المفعول وأن الوضع الأمني ما زال متدهورا. أخبرته أني سأغادر إلى جيجل فهز حاجبيه لم أعرف هل رفقا بي ام شفقة علي ام تعجبا.

- كان الله في عونكم يا الجواجلة. جيل جوهرة الشرق تدفع ثمن طبيعتها الساحرة.

- من بكري اخي. هل تعلم انها آخر منطقة سقطت تحت نير الاستعمار الفرنسي في الشرق؟

- كلا. لا أعرف سوى أنها كانت أحد أكبر معاقل الثورة.

-لا ننكر دور المناطق الأخرى في المقاومة لكن جيجل سقطت في 1849 أي بعد سقوط قسنطينة وميلة وسطيف وسكيكدة. ومع ذلك لم تنل حقها من الاعتراف.  لا تزال كتب التاريخ تشير اليها على انها منطقة الشمال القسنطيني وليس منطقة جيجل.

- لديك حق في ذلك. هذا بطر للحق. على كل حل يبقى حديث ذو شجون. سررت بمعرفتك.

- الشرف لي...ربما سنلتقي يوما ونكمل الحديث.

- بربي ان شاء الله. تحياتي.

-سلام.

      استعدت حقيبتي واسرعت الى مكتب الحجز لرحلة قسنطينة على الساعة السابعة مساء ذلك اليوم. الرحلة تدوم أقل من نصف ساعة في طائرة البوينغ. الساعة الثامنة سأمتطي سيارة اجرة الى حي 20 اوت حيث تقيم عائلة ابن العم إسماعيل بوفليغة. هكذا فكرت وقدرت.

       منحني موظف الحجز تذكرة ارفقها بابتسامة عريضة وهو يقول:

- عندك زهر يقطع يا خو. هذه آخر تذكرة متوفرة على هذه الرحلة.  هي آخر رحلة إلى قسنطينة. أسرع وادفع حقيبتك. لم يبق وقت كثير.

- شكرا جزيلا.

       أسرعت الى الاصطفاف في طابور طويل بعدما سمعت موظفة الاتصال وهي تطلب عبر مكبر الصوت من المسافرين على رحلة العاصمة -قسنطينة الالتحاق فورا بقاعة الانتظار. بقي الجميع ينتظر أمام باب قاعة الانتظار المغلق إلى أن خرجت علينا بعد نصف ساعة سيدة في الأربعين ملأت وجهها بكل مساحيق التجميل لتخبرنا ان الرحلة تم تأجيلها إلى حين. قالتها وهي ترطن بفرنسية باريسية.

       أعدت حساباتي مجددا. لنفرض أن الطائرة ستقلع على الثامنة. سأصل الى حي 20 اوت بقسنطينة على التاسعة. يمكن لباب العمارة أن يبقى مفتوحا وسأصعد بكل سهولة الى الطابق الرابع حيث يقيم ابن العم.

     رجعت الى بهو المطار لأشتري جريدتي لوسوار دالجيري والمساء لأنهما تصدران في المساء وأخبارها طازجة فوجدت أن صفحاتها ملئتا بأخبار الاغتيالات والخراب فأعدتهما الى مكانهما وقفلت راجعا أريد قاعة الانتظار. إنها الساعة الثامنة وبابها ما زال مغلقا. صاح أحد المسافرين قائلا:

- متى صدقت وعود الخطوط الجوية الجزائرية؟

وتبعه آخر متذمرا:

-لا يكلفون أنفسهم حتى إفادتنا بوقت الرحلة.

قلت لهما اننا دفعنا ثمن التذاكر. يفعلون بنا ما يشاؤون. لو كان الدفع مثل سيارة الأجرة أي الدفع بعد الوصول لما تجرأوا علينا.

- والله عندك الحق. ربما لو كانت هناك شركة نقل أخرى تنافسها لحسنت هذه الشركة خدماتها. كما يقول المثل بالعربية '' خلا لك الجو فبيضي واصفري"

     نفذ صبري بعد أن أخبرني أحدهم ان أحد الموظفين بالمطار قال له أن الرحلة تم تأجيلها الى الساعة التاسعة.  نظرت الى الساعة فوجدت إنها تشير الى الساعة التاسعة. كانت الرحلة المتوجهة الى وهران آخر رحلة مبرمجة من مطار هواري بومدين. هرع المسافرون عبر الرحلة الى قاعة الانتظار بعد ان علموا بقصة رحلتنا. فتح موظف الخطوط الجوية في إدخال المسافرين الى قاعة الانتظار بعد ان قاموا بتسليم امتعتهم. خلا المطار الآن إلاّ من المسافرين الى قسنطينة.

    سيطر الغضب على الجميع فاندفعوا نحو باب قاعة الانتظار فخرج عليهم موظف بالمطار يطلب منهم الصبر لأن المشكلة ستحل بعد قليل ولا يوجد داع للتوتر وتحطيم الأبواب ورفع الأصوات. دخل الموظف بعد أن فشل في تهدئة الأوضاع. مرت بعدها ربع ساعة لينتبه الجميع الى شاشة عرض الرحلات. رحلة قسنطينة اجلت الى العاشرة و النصف ليلا.

الخميس، 13 أغسطس 2020

الشاهود

 الطقس جد حار و الرطوبة عالية داخل مسجد حيّنا عجزت معه المكيفات و المراوح ان تقلل من آثاره على المصلين خاصة حين نقوم لصلاة العصر. اعتاد إمام المسجد ان يطيل في التشهد الأخير و هي عادة لم نعهدها في بقية المساجد في الطاهير. كنت أتصبب عرقا داخل المسجد و مع كثرة اعداد المصلين في هذا الوقت اصبح الامر لا يطاق. 

     هي الركعة الاخيرة و سنخرج من هذا الحمام الصيفي. هكذا حدثتني نفسي حين رفعت جبهتي و هي تتصبب عرقا للتشهد الأخير. اطال الإمام كعادته في التشهد الاخير فسرحت بخيالي متذكرا ما يقوله ولد عباس و اويحي و عمار غول عن حال البلد فلعنت الشيطان و كدت العنهم جميعا لولا اني تذكرت اني في الصلاة.

    سلّم الامام و ظننت ان الكابوس انتهى لولا أن الرجل الذي كان بجانبي بادرني بالقول " اصبعك"..نظرت الى اصابع يدي اتفقدها ثم سالته: واش بيه صبعي؟"

- الشاهود-نطقها هكذا- هو الذي سيشهد عليك يوم القيامة.

- علاه..واش دار لك؟

- ما فهمتنيش...علاش ما تدوّرش صبعك عند التشهد...دوّرو هكذا ...و اشار الى (شاهوده.-

-فهمني برك...قولي يرحم والديك...انت كنت تصلي و الا كنت تعس في صبعي؟.

في ذكرى وفاة والدي


توقفت الاشغال فجاة في ورشة البناء التابعة للمقاول Tassoni بباريس. انه يوم السبت 12 اوت 1972. جاء ابن المقاول Pierre الى علي رئيس الورشة مهرولا .

- ما الامر؟ 

- حدث مشكل في الرافعة ...لقد توقفت عن الدوران.

- غير معقول ...اوشكنا ان ننهي الطابق الاخير.

- وانا كنت انتظر هذا اليوم بفارغ الصبر ...اليوم السبت مساء ساكمل شراء الاغراض للاولاد.

-لديك الوقت الكافي يا علي ...ما زال امامك اسبوعان للعودة الى البلاد.

- اشتقت الى رؤيتهم ...لم ارهم منذ الصيف الماضي.

-نسيت ان أخبرك ان ابي قرر ان يمنحك اسبوعا اضافيا مكافاة لك.

-ااوو...شكرايا سيد Tassoni. فرحتني.

وقف علي تحت الرافعة مشيرا الى سائقها ان ينزل بطلب من ابن  المقاول. نزل السائق و توجه مع علي و ابن صاحب المقاولة الى محرك الرافعة. عاود السائق الصعود. استدار Pierre الى علي و وضع يده على كتفه ثم قال له '' سازورك في الجزائر العطلة المقبلة ...هل انت مستعد لاستقبالي ؟

- هذا شرف لي ...مرحبا بكم 

فجأة سمع الاثنان صراخ سائق الرافعة من فوقها ...ما كاد الاثنان يرفعان راسيهما حتى هوت  الحاملة الحديدية على رقبة علي فاسقطته ميتا. وقف ابن المقاول Pierre مذهولا من هول ما رأى...توقف الجميع عن العمل. 

هكذا كانت نهاية ابي علي بن الشريف بوفليغة في مثل هذا اليوم من سنة 1972 تاركا وراءه سبعة أبناء. لقد غادر الى فرنسا بعد ان ضاقت به سبل العيش بوطنه في خمسينيات القرن الماضي. قبل وفاته بشهرين كان أبي قد اجرى عملية ناجحة اخفاها عن عائلته لكن الموت الذي كان يترصده في غرفة الجراحة بمستشفى Lariboisiere كان له راي آخر في المكان و الزمان و الطريقة.

   رحم الله أبي ...ذلك الرجل العصبي الابي ...كان قلبه قلب صبي...صبره صبر نبي...رحم الله أبي.

الاثنين، 17 فبراير 2020

قصة شهاب مع سرطان الدم

البداية 

 كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا من صباح يوم 16 جويلية من عام 2017 حين سلمتني ممرضة عيادة طبيبة امراض الدم بالدقسي بقسنطينة نتائج عملية لأخذ خزعة النخاع العظمي لشهاب. " فقر دم فقر ،لا داعي للخوف'' قالت الممرضة بصوت خافت. خرجنا انا وشهاب صاحب الثلاثة عشرة  ربيعا ووالدته من العيادة لكن الطريقة التي اخبرتنا بها تلك  الممرضة عن المرض أدخلت الشك في نفسي. عدت اليها بعد أن اوصلتهما الى السيارة.
 عذرا، مدام، ماذا وجدتم عند الطفل؟
 سامحني سيدي. لم  أرغب أن تسمع والدته ،عنده سرطان الدم، مسكينٍ ، ربي يشفيه.
لم انتبه الا ووالدته بجانبي تسألني عن سر عودتي للعيادة. كررت عليها الممرضة ما قالته في السابق
 لا شيء يا مدام ،فقر دم فقط.
   الجنين يعاني خطر الموت
      كتمت الأمر في نفسي وأنا أقود سيارتي متوجها الى مستشفى الخروب. عاد بي الزمن الى الوراء تذكرت خلالها ما تعرض له شهاب حتى قبل قدومه الى هذه الدنياو هو جنين في بطن أمه. تذكرت حين أخذت والدته في 23 سبتمبر 2005 لتضعه بمصلحة الولادة بمستشفى الطاهير. أتممنا اجراءت الدخول الى المستشفى . مرت ربع ساعة قبل أن تخرج إلي طبيبة النساء
 أسرع بالمدام، الجنين يعاني من صعوبات عدة، قالت لي طبيبة مصلحة التوليد بمستشفى مدينتنا.  علمت لاحقا أن القابلات و الطبيبات بالمستشفى كن يحولن الحوامل لمستشفيات أخرى تجنبا للإرهاق و طلبا للراحة و ليس حرصا على صحة الحوامل و الأجنة. طبعا كان المراجعون من عامة الشعب يصدقون ما كان يقال لهم و يفعلون ما يؤمرون.
     ولادة شهاب بعد إعلان وفاة
هرعنا الى حيث أرسلونا و صلنا الى عيادة التوليد على الساعة الخامسة مساء . أتممنا الاجراءات الادارية و عدت الى البيت بعد أن طلبوا مني المغادرة فالمكان مخصص للحوامل فقط. بعدها بساعة  اخبرت طبيبة النساء بدار الولادة زوجتي ان الجنين توفي في بطن أمه. أخفت عني والدته الخبر و لم تتصل بي. صباح اليوم الموالي و على الساعة الرابعة صباحا أتصلت بي زوجتي لتخبرني بميلاد طفل بهي الطلعة  أسمته كما طلبت منها '' شهاب الدين''. التحقت بالمستشفى مباشرة لأتأكد فوجدته فاتحا عينيه و هو يمص سبابته و كأنه يقول لي أنا حي أرزق. قبلته ثم  حملته بين يدي و أذّنت في أذنه اليمنى نام بعدها مباشرة كأنه اطمأن لسماع الآذان.
    شهاب يعود إلى الحياة
     شهران بعدها  أُصيب  رضيع شهاب  بالتهاب رئوي حاد تطلب نقله الى المستشفى على عجل. رافقتنا انا ووالدته زوجةُ عمه وفي منتصف الطريق أخبرتني الأخيرة أن الطفل توقف عن التنفس نهائيا بعد ان ظل يبكي لساعات ."لقد مات".نظرت إليه فوجدت أنه لا يتحرك. رفضت تصديق الأمر فزدت في سرعة السيارة .وصلنا الى المستشفي والطفل متوقف عن التنفس. ادخلته مع والدته إلى مصلحة الطوارئ و خرجت حتى لا أسمع خبر موته من الطبيب. طال انتظاري قبل أن تخرج والدته  تبشرني ان الشهبوب كما أدعوه حي يرزق. أما سبب بكاء الطفل فبسبب  دواء وصفه له أحد أطباء الأطفال بالمدينة. الدواء سبّب هيجانا كاد أن يودي بحياته. عدت للطبيب بعدها لألومه على حجم الضرر الذي ألحقه بالصبي فلم يعتذر بل برر فعلته بأن استجابة الاطفال للدواء تختلف. خرجت من عنده و أنا ألعن اليوم الذي فكرت في دخول عيادته. لا زلت إلى غاية اليوم لا أفهم كيف لطبيب أطفال ان يصف ستة أدوية مرة واحدة لرضيع ذي شهرين؟
    خيبة بعد أمل
   في شهر اوت من العام الماضي و بعد ان اكمل شهاب شهره الرابع و العشرين من المرض طلب مني الأطباء المعالجون بمستشفى قسنطينة الجامعي إجراء الفحوصات الخاصة بنهاية العلاج. إذا كانت الفحوصات سلبية فسيتوقف الطفل عن تناول الدواء. أخذت شهاب إلى الجارة تونس كما يفعل جل الجزائريين بحثا عن الفعالية و الشفاء. ذهبنا برفقة خاله إلى عيادة دولية هناك فوجدت ان الأمور لا تختلف كثيرا عن ما ألفناه في الجزائر سوى من حيث دقة المواعيد و النظام. أجريت الفحوصات لشهاب و انتظرت يوما كاملا مرّ علينا كالدهر لمعرفة النتائج. عدنا في صبيحة اليوم الموالي فأخبرني الطبيب أن دم شهاب خالِِ من الخلايا الخبيثة و انه يمكنه اللآن البدأ بتخفيض كمية الدواء. بكيت من شدة الفرح. هاتفت والدته التي بقيت تنتظر على أحر من الجمر هنا في الجزائر و أخبرتها بالنبأ السار. عدنا إلى الجزائر و نحن لا نصدق ما جرى. خطط شهاب لمرحلة ما بعد السرطان بعناية. عدنا الى مستشفى قسنطينة و سلمنا نتائج التحاليل الى الطبيبة بدرجة بروفيسور. عفوا سيدي. وقع هناك خطأ. ما كان يجب عليكم إجراء الفحوصات. يجب مواصلة العلاج و إجراؤها بعد ستة أشهر من الآن.
    الميلاد الثالث
    اليوم  و بعد مضي ستة أشهر   اتصلت بي والدة شهاب  من نفس العيادة بقسنطينة حيثُ شُخِّصت إصابة الولد بالسرطان لتخبرني ان عينة نخاع عظامه و تحاليل دمه أثبتت شفاءه من المرض, جسمه خالٍِ من الفيروسات و قلبه مفعم بالحياة . العلاج الكيماوي لم يسبب له أي ضرر. يالله. خررت ساجدا .
     لم أصدق نفسي و أنا أتذكر تحاليل دم شهاب عند تشخيص حالته في 2017. لقد كانت خلايا الدم البيضاء تشكل 81 بالمئة من دمه.كنت أتحاشى ذكر إسم المرض أمامه فذكره عند كثير منا  يعني الموت مباشرة. كنت  أستعمل كلمة ''لوكيميا " بدل "سرطان الدم'' ولكنه بحث عن الكلمة في الانترنت و عرف ان مرضه نوع من انواع السرطان. بحث عن طرق علاجه وكيف يتغلب على آثار العلاج الكيماوي و الأدوية و الحقن و مدة العلاج وأحدث الطرق للتغلب عليه.
      حفلات الشواء
 32 شهرا من المعاناة لم تفقدالشهبوب الثقة بأنه سيقهر هذا المرض الفتاك يوما. كان دائما حين تشتد عليه تأثيرات العلاج الكيماوي  يردد جملته الشهيرة ''لا تعترف بالحريق الذي في داخلك, ابتسم وقل أنها حفلة شواء'' . الستة الأشهر الأولى من العلاج كانت الأصعب و الأمرّ  احتاج فيها إلى نقل الدم و الصفائح الدموية و عزله في غرفة لوحده بعد ان ضعفت مناعته بشكل رهيب. الأربعة الأيام الاولى بالمستشفى مرت عليه كأنها سنوات. بقاء والدته بجانبه خفف عنه وطأة القيئ و الغثيان و آلام العظام و هي من آثار العلاج الكيماوي الأشد سوءا. مرت أسابيع عرف فيها شهاب أن حالته ليست اكثر سوءا من اولائك الاطفال الذين تمكن السرطان من أجسامهم فمنهم من تسبب في فقدان بصره و منهم من تسبب في بتر أحد أعضائه و منهم من توفي أمامه. كان الأطفال بمصلحة الاورام كلهم من الطبقة الفقيرة او المتوسطة أرهقت أباءهم كثرة المصاريف من اقتناء اللأدوية و الفحوصات غالية الثمن  وكثرة التنقل.
     معاناة الصحة
 زيارتنا المتكررة للمستشفى سمحت لي و لوالدة شهاب بمعرفة أشياء كثيرة عن واقع الصحة في بلادنا. الأطباء كانوا في غاية الأدب معنا لكن الظروف التي يعملون فيها كانت جد قاسية. كنا نسمع منهم عن قضية الادوية الفاسدة و منتهية الصلاحية التي تستوردها مافيا الدواء يأثمان بخسة لتعيد بيعها للدولة بأثمان باهضة. كان الاطباء غالبا ما ينصحوننا بعدم صرف الأدوية التي تباع في صيدليات الجزائر لأن أغلبها من الهند. كانوا يحدثوننا عن حالات الوفاة الكثيرة التي حدثت بسبب نوعية الدواء. كنا نسمع عن ندرة الحقن باهضة الثمن و كيف كان يتم بيعها خفية او صرفها للمعارف فقط. أتذكر ان طبيبة بدرجة بروفيسور تقاعدت بسبب ظروف العمل القاهرة. قبل أن تخرج الطبيبة قامت بتجهيز مصلحة طب الاورام بثلاجة جديدة من مالها الخاص.
   أدرك الطفل أن المقاومة و عدم الاستسلام هي الطريقة الوحيدة للتغلب عليه. '' كل الذين استسلموا ماتوا ولو ظلوا أحياء'' هكذا كنت أردد على مسامعه حين زيارته. و لذلك  ظل شهاب يحلم , رغم المرض،  بأن يصبح بحارا كأمير البحر العربي شهاب الدين أحمد أبن ماجد . '' الآن و بعد أن قهرت السرطان سأتقرغ لتحقيق حلمي. قهرت المرض يا أبي. لا غيابات عن الدروس بعد اليوم". و لأنه لا ينسى جميل من وقفوا معه، طلب شهاب من أمه أن تحَضر كعكة كبيرة ليحتفل بها مع زملائه و أساتذته يوم عودته للمدرسة. '' لقد وقفوا معي  و شجعوني على المقاومة، يجب أن أرد جميلهم يا أمي

الجمعة، 31 يناير 2020

الوصول.


   
شكرت احميدة على موقفه خاصة بعد توقفه. نزل الآخرون و اغتسل الجميع. الرحلة متعبة فعلا خاصة إذا كانت المشاهد تتكرر امام ناظريك. الساعة تشير الآن الى التااسعة صباحا.  يبدو ان فصل الشتاء في تمنراست لا يختلف عن ذلك الذي نعرفه في جيجل شمال الجزائر. كثيرون قالوا لي أن الطقس في تمنراست يشبه ذلك الذي نعرفه في الساحل.معتدل في الشتاء و غير ساخن جدا في الصيف.
 -- سوف نستمتع بشمس هذا اليوم في تمنراست .أليس كذلك يا مستر حسن؟
-- اعتقد ذلك يا لوركان. الطقس هنا في تمنراست معتدل و بامكانك ان تتخلى عن الملابس الشتوية في النهار. هكذا قيل لي.
-- آوه..أحب ذلك...نحن نعاني في ايرلندا ..الضباب و المطر هناك يستمران لمدة طويلة. إنه يجعل أيامنا بائسة.
--هو نفس الطقس في بريطانيا. أليس كذلك؟
-- بالفعل..ممطر و كثيف الضباب. يبعث على الكآبة لذلك تجدهم لا يكثرون المزاح هناك..مزاجهم يتأثر بالطقس.
-- نحن في شمال نيجيريا نعاني من طقس حار جدا في الصيف. يمكن للحرارة ان تبلغ أرقاما قياسية في كادونا شمال نيجيريا...لا آحب ذلك. استمتعت بالطقس في مغنية شمال غرب الجزائر. الجو هناك رائع..يقولون انه نفس الطقس الذي يسود في اسبانيا.
-- هل ستعود إليها ؟
-- نعم . لن أفقد الامل في الهجرة الى أوروبا. سأعمل المستحيل....
    كنت بصدد إشعال سيجارة عندما أوقفني احميدة مستعجلا الركوب و الانطلاق صوب وجهتنا. صعدنا جميعا الى السيارة و انطلقنا من جديد صوب تمنراست. استغل مرافقنا النيجيري الصمت الذي أعقب ركوبنا ليكمل لنا خطته للهجرة نحو اوروبا.
-- سوف أعود لكادونا أتفقد عائلتي و أعمل لأوفربعض المال للعودة مجددا إلى مغنية. سأحاول تعلم حرفة إصلاح السيارات. لابد أن أحصل على خبرة كافية. تعلمت في الجزائر بعض الحرف كالبناء و الفلاحة لكنها متعبة.
-- واش بيه هذا السوداني يالشيخ؟ واش راه يحكي؟
-- حاب يروح لأوروبا يا حميدة...الدودة نتاع الهجرة كلات له مخه.
-- عنده الحق يالشيخ..والله تحير في الدنيا هذه. الايرلندي ما يحب يقعد في بلاده. المالي هذا مسكين رايح جاي من مالي للدزاير. هذا النيجيري حاب يروح لاسبانيا. أناحاب نروح لهولندا. انت حاب تروح لفرنسا.
-- حكينا فيها ياحميدة. الانسان مسافر رغما عنه. الانسان ليس بشجرة . كل واحد فينا يشوف في الخير ماشي تحت رجليه و إنما بعيد عليه.
-- والله كاينة يالشيخ. نعرف واحدة تعيش هنا في الصحراء من هولندا . خلّات كلشي في هولندا و جات شرات خيمة و استقرت هنا في جبال الهقار. أنا وصّلت لعندها  صحافيين هولنديين من قناة هولندية و صوروها و حكاو معها. والله حيرتني.
-- ما زالت هنا؟
-- ما زالت. والله  يالشيخ جاء حتى السفير الهولندي لعندها.. وصّلتهم بنفسي.. حابين يرجعوها لبلادها...قالتهم والو...كرهت من هولندا.. هنا في الهقار خير ...والله تحير
-- ما تحير ما والو..منين تلقى راحتك هذيك هي بلادك...إمالا على بيها حاب تروح لهولندا ياحميدة..درت معرفة معاهم؟
-- واش بغيتني ندير...رحت ليها مرة ...عجبتني بزاف.
-- و علاش ما ريحتش؟
-- ما نقدر نخلي اولادي بلاش. نستنى يبدا وليدي يخدم و نروح. قالت لي هذه الهولندية تعاوني..راني داير فيها مزية..نقضي لها الحوايج اللي تحتاج كل سمانة...موصي عليها التوارق...عاجبها الحال.
-- هذا مشروع كبير يا احميدة. على كل حال ربي يسهل.
-- رانا قريب نوصلوا. شوفنا الايرلندي هذا إذا كان عنده وين يبات؟
-- راه يقولك رايح يبات فالاوتيل..شوف له برك طاكسي مليح لعين قزام.
-- بربي ان شاء الله...شوفوا اذا كان باغي يشري حوايج للذكرى.
--قالك العشية تروح لعنده منين يبات و تتفاهموا.
   أخرج لوركان مذكرته و طلب مني منحه عنواني  ثم مزق ورقة صغيرة و كتب لي عنوانه فيها.
 --  هذا عنواني في دبلن بايرلندا. هذا عنوان العمل و هذا عنوان السكن. لاتتردد في الكتابة إلي.. سررت بمعرفتكم جميعا. سأعود يوما ما . لن أنسى هذه الرحلة . ساكتب عنها عندما اعود الى إيرلندا. اتمنى لكم السلام لبلادكم. تستحقون الأفضل.
  نزلنا من السيارة و اخرج كل واحد أمتعته. اخذ كل واحد وجهته بينما عاد إلي إيغابي النيجيري صافحني ثم قال لي 
-- استمتعت كثيرا بالسفر معكم. لقد أخذ هذا الاروبي عنوانك. لكن دعني أقول لك يا سيد حسن. نحن بالنسبة لهؤلاء كسواق الطاكسي و عمال الفنادق. يلتقون بنا و يتحدثون إلينا و بمجرد ان نفترق ينسوننا مباشرة. طاب يومك. سلام 
-- شكرا. حظ موفق...سلام


الثلاثاء، 28 يناير 2020

زوار الليل

   
وصلنا إلى إنيكر التي تبعد عن تامنراست 170 كلم. كنت أعتقد انها منطقة حضرية بسبب وجود اللافتة لكن اكتشفت أنها كمنطقة آراك التي توقفنا بها من قبل. بعض الأكواخ الحجرية منتشرة هنا و هنا مع بعض الجمال المرابضة أماما تدل على وجود حياة ما هنا. أوقف حميدة شريط الكاسيط و بدأ يبحث عن إشارات المحطات الإذاعية. إنها أخبار الصباح من إذاعة الجزائر. الأخبار تتحدث عن أختطاف طائرة فرنسية بمطار هواري بومدين ومقتل شرطي جزائري بالمطار. المفاوضات مع الخاطفين جارية على...
   --حبّس علينا الله يرحم والديك يااحميدة.
  -- والله ياشيخ عندك الحق..ما تسمع إلا ما تكره..الحالة والله ما تعجب صح.
  -- و السيد يقولك روّج للسياحة؟ كيفاش تروّج للسياحة و مدخل الجزائر من الجو غير آمن؟
     التزم احميدة الصمت  بعد أن أغلق المذياع كأنه لم يجد إجابة لسؤالي رغم أن سؤالي كان موجها في الأساس للوركان.
     قررت ان أتوقف عن الكلام و ذهبت بخيالي إلى هنالك في الطاهير حيث والدتي. كنت سافرت في عطلة الخريف الماضية و لا زلت أتذكر ليلة وصولي. كان الظلام يُخيّم على المدينة باكرا كما الخوف. الكل يدخل مسرعا الى بيته لأنه لا يعرف إن كان إسمه ضمن قائمة الذين سيزورهم قتلة الليل. "الموت غالبا ما ياتي الى الطاهير في عتمة الليل او مع انوار الصباح الجديد" قال لي صديقي عبد المجيد ذات يوم. يجب ان تحضر نفسك جيدا له. قد تكون جماعة من الارهابيين الذين ينتقمون من العسكر و اهاليهم او قد تكون جماعات الدفاع الذاتي التي راحت تتنقم من عائلات الجماعات الارهابية الموجودة في الجبال. كان يوجد في حينا من ينتمي إلى هؤلاء و أولائك.    
     تناولت عشائي باكرا على غير العادة بعد ان رفضت أمي خروجي الى مقهى صديقي ياسين وسط مدينة الطاهير. '' والله ما خرجت'' . أقسمت علي بأغلط الايمان أن لا أترك البيت في هذا الوقت من الليل. صليت العشاء و كنت بصدد سحْب المدفأة الى غرفتي حيث أنام و فجاة بدأ يعلو ازيز الرصاص في الخارج.  قفزت الى الأرض منبطحا بينما أسرعت امي إلى إطفاء أنوار البيت و لم تترك لي الفرصة حتى ألتحق بالفراش. 
   -- أطفئ الشوفاج - المدفأة - و ارواح نرقدوا مع بعض. ما تباتش وحدك. 
   -- علاش؟ واش كاين؟
   -- انت كنت في الصحراء يا بني..هكذا هي الحالة يوميا. هذه طريق اصحاب الجبل من هنا يهبطوا الى الطاهير و من هنا يطلعوا للجبل.
  -- و كيفاش على بالكم؟
 --الناس يشوفوهم يا بني..ربي يستر..علاش ما قلتش باللي جاي والله و اخبرتني ما نخليك تحط رجليك هنا.
 -- تواحشتكم يا يمّا.حتى  في عين صالح ما تقدرش تريح هاني و انت تعرف واش صاري هنا.
 -- الله لا تربح السياسة ...هي وصلتنا لهذه الحالة. الخوف يا بني داير حالة.الناس تموت و ما على بالهاش علاش.
 -- صح يا يما...والله سمعت و انا في عين صالح بالاستاذ العراقي البوسطجي الله يرحمه. قتلوه قدام الثانوية..مسكين والله العظيم كان رايع. حتى السياسة خاطيه.
   سكت ازيز الرصاص  وعم المكان هدوء لم يطل أمده. طلبت مني والدتي ان التزم الصمت فهناك حركة خارج البيت..سمعت أنا أيضا حركة أقدام تجري في الشارع ثم اقتربت شيئا فشيئا من باب بيتنا. ثم سمعنا طرقا على الباب..طرقا خفيفا ثم بدأ يزداد عنفا.
ساد البيت صمت رهيب اما أمي فقد كدت أسمع دقات قلبها من الخوف. شعرت انهم علموا بقدومي من الصحراء فجاؤوا من أجلي.
لحظات و سمعنا حركة داخل فناء البيت. قلت في نفس لقد تسلقوا الجدار و قفزوا إلى داخل المنزل. الموت يقترب مني. فتشوا المطبخ. ''إنهم هنا'' قال أحدهم. '' العشاء طايب. هذا وين تعشاو.الكسرة ما زالت سخونة''. أقترب أحدهم من الباب وضربها بقوة. نهضت امي مفزوعة و أرادت فتح الباب لهم فصحت بأعلى صوتي '' حبّس''
   و استيقظت فجأة على صوت السائق وهو ينظر إلي فزعاَ
 -- خير يالشيخ ..واش كاين؟آش خلق ليك؟
-- بسم الله الرحمن الرحيم..والو غير الخير.
-- استغفر مولاك يالشيخ ..كاش ما شفت في المنام؟
   توقف السائق على جانب الطريق بينما استيقظ الجميع على صوت صرختي. نزل احميدة من السيارة و أحضر لي كوبا من الماء. 
--اشرب يالشيخ..باين  عليك كنت تخلط في المنام.


الاثنين، 27 يناير 2020

Route 66 في الجزائر

 
   لم أجد ما أبرّربه للايرلندي سبب غياب المرافق السياحية. تذكرت اني أرجعت ذلك للإرهاب و لكن قلت في نفسي ' وقبل الإرهاب ماذا كانت الدولة تفعل؟ . لقد كان الآلاف يأتوننا من كل البلدان فلماذا لم نستغل الفرصة ونطور الهياكل السياحية لنجذب سياحا أكثر.'' كنت بصدد البحث عن عذر آخر لكنه هدأ و كأنه ادرك انه يخاطب مواطنا جزائريا.
 -- آسف جدا سيد جسن...ما كان ينبغي ان أقول  لك ذلك...اعذرني...بلدكم جميل جدا  وشعبكم رائع..لا يستحق هذا.
 -- لا داع للاعتذار ..أقدّر حرصك على بلدي...كما ترى ..كل واحد يساهم في تدميره بطريقته الخاصة.
 -- قطعت الآن أكثر من 1600 كلم و ما زال الكثير أمامي حسب الخرائط. بلدكم قارة يا أخي. لم أشاهد ما شاهدته في بلد آخر.  لا أفهم كيف تقبلون بهذه الوضعية.
 -- وماذا تريد من مُدرّسِ مسكين مثلي أن يفعل؟
 -- بإمكانك الكثير. أنت تتكلم الإنجليزية بطلاقة ..بامكانك أن تروّج للسياحة في بلدك.
 -- و من سيغامر بالقدوم إلى بلد يتقاتل فيه شعبه؟
 -- أمركم غريب يا سيدي. أنتم لا تتحدثون سوى عن العراقيل. انا اتحدث عن الحلول وانتم لا تعرفون سوى العراقيل..آسف مرة أخرى...لا أقصد  التعميم.
-- نعم..من سيغامر و يأتي الى هذه البقعة الملعونة ؟
 -- انا هنا أمامك..لوركان دوبراين من ايرلندا. هناك الكثير أمثالي مستعدون للمغامرة مثلي. العام الماضي سبقني رحالة بريطاني زار الجزائر ضمن رحلته حول العالم على دراجته. نشر كتابا حول هذه الرحلة الممتعة أسماه '' حول العالم على دراجة" لقد جعل هذا الرووةحالة الكثير يحلمون بمشاهدة ما ذكره في كتابه. 
-- لن تصدقني إذا قلت لك أنه قضى الليلة معنا حين قدم إلى عين صالح.
--  حقا؟..تمنيت لو التقيته. قرأت كتابه فقط
-- أسمه طوماس..لكني نسيت الاسم الثاني.
-- طوماس ستيفنس...هذا اسمه الكامل.
-- لا أذكر جيدا ..كان في الخمسين من عمره ..ذو لحية غزاها الكثير من الشيب..دراجته كلاسيكية سوداء.
-- ذاك هو..في الخمسين من عمره..دقيق جدا في تدوين رحلاته و لا يبخل بالتفاصيل..عندما تقرأ كتابه تشعر و كأنك تشاهد فيلما.. أنت محظوظ بمقابلته.
-- صراحة لم أتحدث معه كثيرا..زميلي الذي جاء به هو من قدمه لي و أخبرني عن مشروع رحلته حول العالم. لقد كان متجها نحو كينيا.
 -- صحيح...و من هناك الى اليابان. من اليابان الى الصين و منها الى التبت ثم الى الهند فإيران...هذا مسار رحلتي أيضا.
 -- لكنك  تسافر بدون دراجة..أنا أسافر بالطاكسي..أريد ان اساهم و لو بالقليل في دفع السياحة الى الأمام... أحب أن اشجع سائقي الأجرة ...دعهم يستفيدون من زيارتي أيضا.
 -- و هل ستؤلف أنت ايضا حول هذه الرحلة؟
 -- نعم ...أرجو ذلك..أحب مشاركة الجميع فيما أفعل و أرى.
 -- كم لبثت في عين صالح؟
 -- ليلة واحدة..لم تتح لي الفرصة لزيارة اماكن عديدة هناك..تجولت في السوق لكنه لم يعجبني.
 -- لم تزر أسد تيديكلت و الغابة المتحجرة هناك؟
 -- قرأت عن أسد تيديكلت..هو جبل في هيئة أسد جاثم..صحيح؟
 -- نعم..زرته و لم أصدق أنه من صنع الطبيعة...يشبه أبو الهول في مصر
 -- فعلا...هذا ما قالوا عنه. ماذا عن الغابة المتحجرة؟
 -- تقع ليس بعيد عن عين صالح...بقايا جدوع أشجار تحولت الى حجارة صلبة.
 -- سأغضب فعلا ..لقدحرمت نفسي من أشياء كثيرة.
 -- مازال الكثير لدينا.
 -- لو أنجزتم طريقا مثل الطريق الامريكي روت سيكستي سيكس ستجلبون نصف سكان العالم اليكم كسياح.
 -- و ماهذا الروت سيكستي سيكس؟
 --  هذه الطريق التي ربطت الولايات المتحدة الامريكية من شرقها إلى غربها على مسافة 3600 كلم.  ربطت كل المدن ببعضها البعض و بفضل المطاعم و الفنادق و محطات البنزين و المتاحف و المحلات التجارية التي أنشئت على جانبيها حققت الولايات المتحدة طفرة تنموية في كل المدن.  اصبح السفر عبر هذا الطريق دليلا على العصرنة و الحداثة و  صارت الطريق مقصدا لكل من يزور الولايات المتحدة الامريكية... البعض سماها بالشارع الرئيس او أم  الطرقات ..أنتم تحتاجون لمثل هذا المشروع. لديكم كل شيء
    كنت سأحدثه عن الارهاب و الرداءة المعششة في دواليب إداراتنا ولكني تراجعت  خوفا من أن يقول لي إننا لانعرف سوى الحديث عن العراقيل..فكّرت ثم قلت له بعربية جزائرية خالصة 
  -- ربي يجيب الخير.
 --  ?!!Sorry

الأحد، 26 يناير 2020

طواف حول مولاي لحسن

   
    انحرف سائقنا احميدة يمينا و أخذ مسلكًا بدا لنا أنه غير الطريق الوطني العريض. اعتقدت أننا سنتوقف لكنني تذكرت أن احميدة وعدنا انه لن يتوقف ثانية.
-- وين بيها يا احميدة؟
-- حق مولاي لحسن لازم نجيبوه.
-- شكون مولاك لحسن هذا يا احميدة؟
--هذا ولي من اولياء الله الصالحين. لازم نزوروه كل ما مشينا طريق عين صالح تمنراست.
-- والفايدة؟
-- الفايدة..البركة يالشيخ..فايدة كبيرة..18 سنة و انا نخدم الطريق هذه عمري ما صراتلي حاجة ..لا أكسيدات لا والو.
-- يعني في رايك مولاك لحسن هو اللي ظل  يحميك هذه المدة كامل؟
-- إيّه يا شيخ...هذا ولي الله و عنده حظوة عند رب العالمين.
--هذا شرك بالله يا حميدة.
     وصلنا إلى دوران توسطته بناية طُليت بالأبيض . فهمت ان هذا البناء هو ضريح هذا الذي يقول عنه احميدة أنه ولي الله الصالح. قام احميدة بالإلتفاف حول البناء دورة كاملة و اتبعها بثانية ثم ثالثة. أخذنا انا و لوركان و إيغابي ننظر الى بعضنا في دهشة و تعجب مما يفعله السائق. طلب مني الايرلندي أن أشرح له ما يفعله احميدة.
-- هو يطلب البركة و الحماية من شخص يقال إنه صالح مدفون في هذه البناية البيضاء وسط هذه النقطة الدائرية - الدوار-
-- نبي ؟
-- لا...شخص يشهد له الناس أنه رجل صالح فعل أشياء خارقة لا يفعلها البشر.
-- تقصد معجزات؟
-- تقريبا..المعجزات فعلها الانبياء...اما هؤلاء فليسوا بانبياء..هم عاشوا في طاعة الله و عبادته وابتعدوا عن المحرمات و المعاصي...كالقديسين في مسيحيتكم.
-- انا لا أؤمن بذلك..قرأت عن الاسلام أن الناس سواسية و لافرق بينهم وان إلهكم هو وحده من يمنح الرزق و الأجل. و هذا ما أعجبني في دينكم.
--انا ايضا لاأعتقد في ذلك. الله هو الضار و النافع...لا مخلوق قادر على ذلك.
-- يا أحميدة ..حبس علينا هذا الشيء...استغفر الله العظيم.
--لازم انكملوا سبع دورات يا شيخ...والو من نقدّ نحبس..هذه خلاوهنا الجدود ...حرام علينا.
-- الحرام هو اللي راك تدير فيه ..حبّس علينا الشرك هذا.و لا انزلنا هنا و كمل وحدك..
-- والو ياشيخ...رانا مسافرين مع بعض..نطوفوا مع بعض..نخاف ...ما زال ما وصلناش لتمنراست...كاش ما يصرالنا.
-- واش من طواف تحكي عليه؟ انت حاسب روحك في مكة ؟
     
لم يُعرني السائق أي اهتمام و أكمل طوافه حول الضريح حتى الدورة السابعة أين اوقف السيارة و نزل هو و صاحبه و أبو بكر المالي. أستغل الايرلندي الفرصة و اخرج سيجارة و أشعلها قبل أن يسرع إليه حارس الضريح و يأمره بإطفائها  فالتدخين لا يجوز في هذا المكان حسبه. عاد أحميدة و مرافقاه و صعدنا السيارة من جديد. 
-- واش درتو كي دخلتوا للجامع هذاك يا حميدة؟
-- تصدقنا بالشيء اللي كتب ربي ...و دعينا لمولاي لحسن 
-- كل واحد يسافر على الطريق هذه يدير كيفكم؟
-- لا..الشناوة - يعني اصحاب الشمال - قليل اللي يجي يدور هنا. بصح اهل الصحراء لازم يدوروا سبع مرات و يتصدقوا.
-- هو ميت..شكون اللي يتصرف في اموال الصدقات؟
-- أنت ماك عارف واش يديرو بالاموال هذه يالشيخ..راها كاين بيوت هنا يرتاحوا فيها المسافرين..ياكلوا و يشربوا لوجه الله..و اللي يحب يبات كاين البيوت ..في سبيل الله.
  أخبرت لوركان عن ذلك فاستحسن الفكرة و أخرج مفكرته ليدوٍّن ما شاهده و سمعه  مع رسمة للجامع الموجود وسط النقطة الدائرية.
-- كم بقي و نصل الى تمنراست يا أحميدة؟
-- بربي ان شاء الله 3 سوايع و نكونوا في تمنراست.
-- ماشي قلت لنا بقت 150 كلم ؟
-- والو..قلت 250 كلم. مابقاش ياسر..رانا دخلنا في منطقة الهقار..حكينا عليها.
-- حكيت لنا على تينهينان و حبست.
--هذيك في أبلسة ...قلت لنا حاجة على الهقار بصح ما كملتش.
-- واش  تعرف على الهقار يا شيخ؟
--واش نعرف عليه؟ ماركة نتاع دخان ...العلبة نتاعو مصور فيها ثلاثة توارق مريحين و واحد يسربيهم لاتاي.
-- واش تاني؟
-- جبال صخرية فيها قمة تاهات و خلاص.
-- هذه الهقار يا شيخ فيها تاريخ كبير.أقدم حضارة في التاريخ. تسمع بجداريات الهقار؟ تسمع بأسكرام؟
-- نسمع بأسكرام...بصح ما روحتلهاش . يقولوا أن بها أجمل غروب للشمس في العالم.
-- كاينة يالشيخ. كانت الالاف من الاوروبيين يجوا لتمنراست غير باش يروحوا لاسكرام. كانت الحالة ماشية على الشعرة...كنا نخدموا الطريق هذيك يوميا يالشيخ.
-- شحال بعيدة؟
-- نحكموا 5 سوايع باش نوصلوها..تنقصنا الطريق..
    كان لوركان يتفقد خريطته حين سمعنا نتحدث عن أسكرام. طلب مني ان أحدثه عنها. تفقد خريطته مجددا بحثا عنها حتى وجدها. 
-- لقد قرأت عنها من قبل. إن بها أجمل غروب في العالم. كيف لبلد به كل هذه المناظر ان لا يأتيه هؤلاء الذين يضيعون وقتهم في البلدان الاروبية و جنوب آسيا؟ أنظرمعي الى هذه الخريطة...قمة أسكرام هنا..و تمنراست هنا...لا يوجد طريق معبّد يوصلنا إليها. لا توجد لا فنادق و لا مطاعم هناك..أنتم شعب...أنتم شعب...لا أجد الكلمة المناسبة.














الخميس، 23 يناير 2020

حكاية تينهينان

   

انشغلت بالاستماع الى مرافقنا الايرلندي وهو يحكي لنا عن والده و طريقته في تربية أبنائه و نسيت أن حميدة هو الذي منحني فرصة معرفة المزيد من لوركان حتى فقد صبره.
  -- آه ياشيخ..نسيتني واقيلا...راك عارف ليا نحب القصص تاع اوروبا. ما قلت لي حكايته.
  --ما قالش حوايج كبار..الوالد نتاعو هو سبابه باش جاء يحوس هنا.
  -- هذا حاب يقتله ؟
  -- لا ياحميدة...بوه مات ..حكى له عن الجزائر,  افريقيا و اليابان و الهند و التبت ..حاب يشوفهم
  --والو ..هذا باغي يموت...يجي للجزائر و بلاد المنحوسين هاذوا- بقصد الافارقة- في الظروف هذه ويقولك جاء يحوس. هذا ما يكون غير جاسوس يا شيخ. والله ما بغات تدخل في راسي.
  -- واش خلاك تشك فيه انه جاسوس؟
  -- نعرف نفرق بين اللي يجي يحوس و اللي ما جا يحوس. هذا يمشي فالليل ويكتب والله عمري ما شفت واحد يديرها...راه غير يكتب و يصور. 
  -- ياولدي واش رايح يكتب علينا احنا هنا. واش يديرو بينا أحنا في ايرلندا؟
  -- بالاك راه يخدم مع دول أخرى..والله ما تدري. كان قادر يروح من العاصمة لتمنراست فالطيارة ...علاش يجي في الطريق؟
 -- حاب يشوف البلاد...ما تنساش قال لي بوه شارك في رالي باريس-الجزائر- داكار و حكى له على الصحراء و الجزائريين.
 -- هذه باش يكلحنا يالشيخ. والله ما ندير فيهم الامان هاذوا الكفار.
--ما تدير والو في بالك..حشيشة طالبة معيشة. هذا مسكين استاذ تاريخ في الجامعة.
-- يا ودي انا شاك فيه..كي احبسنا في عين امقل راه كتب ياسر..ما تنساش بلي كاين معتقل فيه الجماعة تاع الفيس -الجبهة الاسلامية للانقاذ- بالاك كاش ما جاء يدي من هنا عليهم.
-- وين على باله أصلا باللي كاين هنا معتقل؟
-- أش نعرف ليه أنا؟ حكى لي عسكري كان يخدم هنا ركب معايا لتمنراست عنده شهر...قال ليا الخوانجية نتاع الفيس دارو عفسة فالمعتقل خلصوها غالية  عليها  كابيتان و 3 عساكر.
-- واش دارو؟
-- غير بيناتنا يالشيخ. كتبو رسالة للأقمار الصناعية باللغة الانجليزية.
-- والله ما فهمتك..كيفاش كتبوها للاقمار الصناعية.
--  في النهار كتبوا بالمواعين اللي ياكلوا فيهم ..الصحون نتاع القصدير صففوهم و كتبوا بيهم ''هنا معتقل عين امقل بالجزائر. أبرياء"
-- و هذا الايرلندي واش دخله؟
-- اللغة الانجليزية يالشيخ...بالك كاش ما بعتوه.
-- ما يعرفش العربية و ما حكاش على السياسة خلاص..غير ما تكبرهاش.
-- آش نعرف ليه انا؟...المهم العسكر راه موصيني..كاش حاجة لازمني نخبرهم.
-- آيوه... و على بيها كي تسقسي فيه من الصباح؟
-- إيّه..بديت تفهمني يالشيخ...هكذا و الا والله ما خلاوني نخدم بكروستي..و نبيع مارلبورو.
-- أنت داهية يا حميدة. والله ما كنت حاسبك هكذا؟
-- ههه..الخبزة يالشيخ...نسيت بلي انا تارقي...اللي يعيش في بقعة كيما هذه يلزمك تستعرف بيه. أحنا اسياد الصحراء..اولاد تينهينان.
-- و شكون تينهينان هذه؟
-- آه ياشيخ..شكون اللي ما يعرفهاش...هذه أم التوارق. رانا قربنا من أبلسّة...المنطقة اللي كانت ملكة عليها تينهينان...اللي ينحدر منها التوارق.
-- في طريقنا؟
-- لا...بصح ماشي بعيدة...هذه تينهينان هي ملكة التوارق...و عندها ابنها اسمه اهقار.
-- مسمية عليه الجبال هذه؟
-- تبارك الله عليك...تينهينان جات من الصحراء الغربية..كانت داهية كبيرة..هي اللي كانت تقود القبيلة اللي جات معها...تعذبوا في الطريق باش وصلوا لأبلسة.
-- وعلاش خيرت آبلسة؟
-- فيها الماء ياسر..فيها زوج وديان يتقاطعوا...هي اللي دبرت عليهم يديروا مركز الدولة التارقية في آبلسة.
-- هي اللي كانت تتصرف؟
-- إيه..هي قائدة الجيش.. غلبت جيوش من موريتانيا و من تشاد و من النيجر...ما خلات حتى واحد يفوت من آبلسة.
-- وقتاش هذه؟
-- القرن الخامس ميلادي...حكى عليها حتى ابن خلدون..
-- امالا عليها يقولوا على التوارق ان المرأة هي اللي تتصرف ماشي الرجل
-- صح..أنا نقولها ليك...إذا كانت تعرف تتصرف علاش لا؟ شوف ياشيخ...هذه تينهينان قبل ما توصل لأبلسة تعذبت هي واللي معاها في الطريق...الصحراء, السخانة و الجوع...هلكهم الجوع..لقاو قافلة من النمل تمشي...قالت تينهينان للخادمة نتاعها تكامات...نمشي عكس خط السير تاع النمل...تبعوا الطريق وصلوا للواد ..لقاو الماء و خيرات كبيرة...تينهينان قررت يعيشوا في آبلسة...هذه هي حكايتنا و حكاية النساء عند التوارق.
-- و ابنها أهقار واش حكايته حتى تتسمى عليه المنطقة كامل؟
-- وصلنا يالشيخ لمولاي لحسن..لازم ندوروا سبع دورات.