الاثنين، 17 فبراير 2020

قصة شهاب مع سرطان الدم

البداية 

 كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا من صباح يوم 16 جويلية من عام 2017 حين سلمتني ممرضة عيادة طبيبة امراض الدم بالدقسي بقسنطينة نتائج عملية لأخذ خزعة النخاع العظمي لشهاب. " فقر دم فقر ،لا داعي للخوف'' قالت الممرضة بصوت خافت. خرجنا انا وشهاب صاحب الثلاثة عشرة  ربيعا ووالدته من العيادة لكن الطريقة التي اخبرتنا بها تلك  الممرضة عن المرض أدخلت الشك في نفسي. عدت اليها بعد أن اوصلتهما الى السيارة.
 عذرا، مدام، ماذا وجدتم عند الطفل؟
 سامحني سيدي. لم  أرغب أن تسمع والدته ،عنده سرطان الدم، مسكينٍ ، ربي يشفيه.
لم انتبه الا ووالدته بجانبي تسألني عن سر عودتي للعيادة. كررت عليها الممرضة ما قالته في السابق
 لا شيء يا مدام ،فقر دم فقط.
   الجنين يعاني خطر الموت
      كتمت الأمر في نفسي وأنا أقود سيارتي متوجها الى مستشفى الخروب. عاد بي الزمن الى الوراء تذكرت خلالها ما تعرض له شهاب حتى قبل قدومه الى هذه الدنياو هو جنين في بطن أمه. تذكرت حين أخذت والدته في 23 سبتمبر 2005 لتضعه بمصلحة الولادة بمستشفى الطاهير. أتممنا اجراءت الدخول الى المستشفى . مرت ربع ساعة قبل أن تخرج إلي طبيبة النساء
 أسرع بالمدام، الجنين يعاني من صعوبات عدة، قالت لي طبيبة مصلحة التوليد بمستشفى مدينتنا.  علمت لاحقا أن القابلات و الطبيبات بالمستشفى كن يحولن الحوامل لمستشفيات أخرى تجنبا للإرهاق و طلبا للراحة و ليس حرصا على صحة الحوامل و الأجنة. طبعا كان المراجعون من عامة الشعب يصدقون ما كان يقال لهم و يفعلون ما يؤمرون.
     ولادة شهاب بعد إعلان وفاة
هرعنا الى حيث أرسلونا و صلنا الى عيادة التوليد على الساعة الخامسة مساء . أتممنا الاجراءات الادارية و عدت الى البيت بعد أن طلبوا مني المغادرة فالمكان مخصص للحوامل فقط. بعدها بساعة  اخبرت طبيبة النساء بدار الولادة زوجتي ان الجنين توفي في بطن أمه. أخفت عني والدته الخبر و لم تتصل بي. صباح اليوم الموالي و على الساعة الرابعة صباحا أتصلت بي زوجتي لتخبرني بميلاد طفل بهي الطلعة  أسمته كما طلبت منها '' شهاب الدين''. التحقت بالمستشفى مباشرة لأتأكد فوجدته فاتحا عينيه و هو يمص سبابته و كأنه يقول لي أنا حي أرزق. قبلته ثم  حملته بين يدي و أذّنت في أذنه اليمنى نام بعدها مباشرة كأنه اطمأن لسماع الآذان.
    شهاب يعود إلى الحياة
     شهران بعدها  أُصيب  رضيع شهاب  بالتهاب رئوي حاد تطلب نقله الى المستشفى على عجل. رافقتنا انا ووالدته زوجةُ عمه وفي منتصف الطريق أخبرتني الأخيرة أن الطفل توقف عن التنفس نهائيا بعد ان ظل يبكي لساعات ."لقد مات".نظرت إليه فوجدت أنه لا يتحرك. رفضت تصديق الأمر فزدت في سرعة السيارة .وصلنا الى المستشفي والطفل متوقف عن التنفس. ادخلته مع والدته إلى مصلحة الطوارئ و خرجت حتى لا أسمع خبر موته من الطبيب. طال انتظاري قبل أن تخرج والدته  تبشرني ان الشهبوب كما أدعوه حي يرزق. أما سبب بكاء الطفل فبسبب  دواء وصفه له أحد أطباء الأطفال بالمدينة. الدواء سبّب هيجانا كاد أن يودي بحياته. عدت للطبيب بعدها لألومه على حجم الضرر الذي ألحقه بالصبي فلم يعتذر بل برر فعلته بأن استجابة الاطفال للدواء تختلف. خرجت من عنده و أنا ألعن اليوم الذي فكرت في دخول عيادته. لا زلت إلى غاية اليوم لا أفهم كيف لطبيب أطفال ان يصف ستة أدوية مرة واحدة لرضيع ذي شهرين؟
    خيبة بعد أمل
   في شهر اوت من العام الماضي و بعد ان اكمل شهاب شهره الرابع و العشرين من المرض طلب مني الأطباء المعالجون بمستشفى قسنطينة الجامعي إجراء الفحوصات الخاصة بنهاية العلاج. إذا كانت الفحوصات سلبية فسيتوقف الطفل عن تناول الدواء. أخذت شهاب إلى الجارة تونس كما يفعل جل الجزائريين بحثا عن الفعالية و الشفاء. ذهبنا برفقة خاله إلى عيادة دولية هناك فوجدت ان الأمور لا تختلف كثيرا عن ما ألفناه في الجزائر سوى من حيث دقة المواعيد و النظام. أجريت الفحوصات لشهاب و انتظرت يوما كاملا مرّ علينا كالدهر لمعرفة النتائج. عدنا في صبيحة اليوم الموالي فأخبرني الطبيب أن دم شهاب خالِِ من الخلايا الخبيثة و انه يمكنه اللآن البدأ بتخفيض كمية الدواء. بكيت من شدة الفرح. هاتفت والدته التي بقيت تنتظر على أحر من الجمر هنا في الجزائر و أخبرتها بالنبأ السار. عدنا إلى الجزائر و نحن لا نصدق ما جرى. خطط شهاب لمرحلة ما بعد السرطان بعناية. عدنا الى مستشفى قسنطينة و سلمنا نتائج التحاليل الى الطبيبة بدرجة بروفيسور. عفوا سيدي. وقع هناك خطأ. ما كان يجب عليكم إجراء الفحوصات. يجب مواصلة العلاج و إجراؤها بعد ستة أشهر من الآن.
    الميلاد الثالث
    اليوم  و بعد مضي ستة أشهر   اتصلت بي والدة شهاب  من نفس العيادة بقسنطينة حيثُ شُخِّصت إصابة الولد بالسرطان لتخبرني ان عينة نخاع عظامه و تحاليل دمه أثبتت شفاءه من المرض, جسمه خالٍِ من الفيروسات و قلبه مفعم بالحياة . العلاج الكيماوي لم يسبب له أي ضرر. يالله. خررت ساجدا .
     لم أصدق نفسي و أنا أتذكر تحاليل دم شهاب عند تشخيص حالته في 2017. لقد كانت خلايا الدم البيضاء تشكل 81 بالمئة من دمه.كنت أتحاشى ذكر إسم المرض أمامه فذكره عند كثير منا  يعني الموت مباشرة. كنت  أستعمل كلمة ''لوكيميا " بدل "سرطان الدم'' ولكنه بحث عن الكلمة في الانترنت و عرف ان مرضه نوع من انواع السرطان. بحث عن طرق علاجه وكيف يتغلب على آثار العلاج الكيماوي و الأدوية و الحقن و مدة العلاج وأحدث الطرق للتغلب عليه.
      حفلات الشواء
 32 شهرا من المعاناة لم تفقدالشهبوب الثقة بأنه سيقهر هذا المرض الفتاك يوما. كان دائما حين تشتد عليه تأثيرات العلاج الكيماوي  يردد جملته الشهيرة ''لا تعترف بالحريق الذي في داخلك, ابتسم وقل أنها حفلة شواء'' . الستة الأشهر الأولى من العلاج كانت الأصعب و الأمرّ  احتاج فيها إلى نقل الدم و الصفائح الدموية و عزله في غرفة لوحده بعد ان ضعفت مناعته بشكل رهيب. الأربعة الأيام الاولى بالمستشفى مرت عليه كأنها سنوات. بقاء والدته بجانبه خفف عنه وطأة القيئ و الغثيان و آلام العظام و هي من آثار العلاج الكيماوي الأشد سوءا. مرت أسابيع عرف فيها شهاب أن حالته ليست اكثر سوءا من اولائك الاطفال الذين تمكن السرطان من أجسامهم فمنهم من تسبب في فقدان بصره و منهم من تسبب في بتر أحد أعضائه و منهم من توفي أمامه. كان الأطفال بمصلحة الاورام كلهم من الطبقة الفقيرة او المتوسطة أرهقت أباءهم كثرة المصاريف من اقتناء اللأدوية و الفحوصات غالية الثمن  وكثرة التنقل.
     معاناة الصحة
 زيارتنا المتكررة للمستشفى سمحت لي و لوالدة شهاب بمعرفة أشياء كثيرة عن واقع الصحة في بلادنا. الأطباء كانوا في غاية الأدب معنا لكن الظروف التي يعملون فيها كانت جد قاسية. كنا نسمع منهم عن قضية الادوية الفاسدة و منتهية الصلاحية التي تستوردها مافيا الدواء يأثمان بخسة لتعيد بيعها للدولة بأثمان باهضة. كان الاطباء غالبا ما ينصحوننا بعدم صرف الأدوية التي تباع في صيدليات الجزائر لأن أغلبها من الهند. كانوا يحدثوننا عن حالات الوفاة الكثيرة التي حدثت بسبب نوعية الدواء. كنا نسمع عن ندرة الحقن باهضة الثمن و كيف كان يتم بيعها خفية او صرفها للمعارف فقط. أتذكر ان طبيبة بدرجة بروفيسور تقاعدت بسبب ظروف العمل القاهرة. قبل أن تخرج الطبيبة قامت بتجهيز مصلحة طب الاورام بثلاجة جديدة من مالها الخاص.
   أدرك الطفل أن المقاومة و عدم الاستسلام هي الطريقة الوحيدة للتغلب عليه. '' كل الذين استسلموا ماتوا ولو ظلوا أحياء'' هكذا كنت أردد على مسامعه حين زيارته. و لذلك  ظل شهاب يحلم , رغم المرض،  بأن يصبح بحارا كأمير البحر العربي شهاب الدين أحمد أبن ماجد . '' الآن و بعد أن قهرت السرطان سأتقرغ لتحقيق حلمي. قهرت المرض يا أبي. لا غيابات عن الدروس بعد اليوم". و لأنه لا ينسى جميل من وقفوا معه، طلب شهاب من أمه أن تحَضر كعكة كبيرة ليحتفل بها مع زملائه و أساتذته يوم عودته للمدرسة. '' لقد وقفوا معي  و شجعوني على المقاومة، يجب أن أرد جميلهم يا أمي

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

الحمد لله على وقوفه من جديد . اتمنى له كل التوفيق والنجاحات وبما انه تغلب على هدا المرض الخبيث فبامكانه التغلب على كل شيء في الحياة بأذن الله انه شجااع وقوي 👍💪