الأحد، 15 مايو 2011

المقنين الزين

        كنت الى زمن قريب شغوفا بسماع أغاني "الشعبي" العاصمي . الأغاني عبارة عن قصائد شعرية ذات قافية  بلغة عربية دارجة يفهمها عامة الشعب . أما عن المواضيع فغالبا ما تتنوع بين مدح الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام و الدعوة الى الاستقامة , الرثاء  و الغزل.بدأت سماع هذا النوع من الغناء في سبعينيات القرن الماضي حيث انتشر هذا النوع من الغناء بفضل التلفزيون الجزائري حيث كان يفتتح برامجه يوميا على الساعة الخامسة مساءا بآيات من القرآن الكريم تليها مباشرة أغنية شعبية و كأنها طبق الافتتاح.  اشتهر بهذا النوع من الأغاني مطربون عاصميون كالشيخ محمد العنقة , دحمان الحراشي, عبد الرحمن القبي , بوجمعة العنقيس و اعمر الزاهي.
          يعتبر الشيخ العنقة عميد هذا النوع من الغناء و أول من جدده و ساهم في انتشاره. و ما زلت معجبا بأغانيه خاصة بعدا عرفت أنه كان دقيقا جدا في اختيار القصائد و حريصا كل الحرص على اختيار اللحن و الآلات المناسبة المرافقة لكل بيت من القصيدة. و ما زاد في اعجابي به هو تنقله الى الولايات المتحدة الأمريكية للبحث في كيفية إدخال آلة البانجو مع الآلات الأخرى الي كانت تستعمل في الشعبي و وفَق في إدخالها أيما توفيق. أدى العنقة العديد من الأغاني الخالدة كأغنية " سبحان الله يا لطيف" التي تتحدث عن أنماط بشرية متعددة و سلوكياتها المشينة.أما أغنية  "الحمام اللي ربيتو مشى عليا"  فتتحدث عن لوعة الفراق بكلمات جد مؤثرة . "الحمد لله ما بقاش الاستعمار في بلادنا " رائعة أخرى تعبر عن الفرحة بالاستقلال توازي في روعتها النشيد الوطني. أما" المكناسية "  فهي أغنية رائعة تتحدث عن غدر و خيانة الصديق.   

           أما  في سبعينيات القرن الماضي فاشتهر  من بين الفنانين في تلك الفترة المطرب دحمان الحراشي الذي كان يؤلف و يلحن و يغني بنفسه تلك الأغاني. و إني ليضحكني الأمر الآن بعد أن علمت أن النظام السياسي القائم آنذاك كان يشجع أغاني هذا المطرب لأنها كانت تتماشى مع سياسة القمع و التخويف التي كان يتبعها. و لازلت أتذكر أغانيه مثل "خبيء سرك يا الغافل و اقرا حذرك لا تبين سرك للغير ...الناس تطوَل الحديث و الحيط بوذنيه" و "و نوصيك يا الغافل" و غيرها من الأغاني التي تحذر من الجار و الصهر و الصديق أما المستمع فهو مجرد مغفل في نظر هذا المطرب الذي اشتغل كقابض في الحافلة ثم اسكافيا ثم واعظا من خلال أغانيه الى أن توفي سكرانا في حادث سير غفر الله له.
       و مثل الحراشي اشتهر مطرب عاصمي آخر يدعى عبد الرحمن القبي و عرف  بأغاني الوعظ و الأرشاد يلفها في قصة خيالية تظن حين يؤديها بتأثر شديد أنه إمام يخطب في الناس من منبر مكي و أن القصة وقعت فعلا. واظبت على  الاستماع اليه و الى أغانيه الوعظية خاصة أغنيته  عن الوالدين الى أن شاهدت يوما شريط فيديو لإحدى حفلاته و فوجئت به و هو يتعاطى لفافة المخدرات على المباشر. سألت عنه فيما بعد فعرفت أنه مجرد عامل أمي  بسيط في شركة لصنع الشاحنات بالجزائر.
         أما بوجمعة العنقيس فقد تخصص في أغاني المديح و بعض الأغراض الأخرى التي تعتبر المستمع عبارة عن جاهل غافل ينبغي تنبيهه و تحذيره من الآخرين . و الطريف في هذا الفنان أنه في الحفلة   الواحدة يلبس ثوب الفنان الورع فيؤِدي أغنية "الوفاة" التي تتحدث عن وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم ثم يتبعها بأغنية عن جلسات الخمر في أغنية "ديرو الأواني" ثم يتبعما بأغنية "الساعة الأخيرة" التي تتحدث عن أهوال الساعة و القيامة ثم يختمها بأغنية في وصف الخمر. استمعت الى الفنان في حوار تلفزيوني فوجدت مستواه كمستوى  التاجر الأمي الذي يبيع التحف الفنية جنبا الى جنب مع الأواني البلاستيكية ومواد التنظيف و مبيدات الحشرات.
         أما اعمر الزاهي فرغم أميته فقد استطاع ان يرقى بالأغنية الشعبية  الى مستوى مخاطبة الوجدان. كل أغنية يؤديها تختلف عن  سابقاتها في اللحن و الكلمة و الآداء. استمع اليه في أغنية "يا الوحداني" فستشعر أنك أنت الوحداني الذي حشر في قبره  يسترجع عمله في الدنيا و ندمه على ما فعل. أما في أغنية" يالمقنين  الزين" فقد أبدع أيما إبداع . فمن يستمع الى الأغنية يعتقد أنها تتحدث عن بلبل سجين في قفص أما الحقيقة فهي قصة شاب جزائري أدخل السجن أيام الثورة ثم حكم عليه بالإعدام بعد أن زورت السلطة الاستعمارية تاريخ  ميلاده ليتسنى لها إعدامه لأن القانون آنذاك كان يمنع تنفيذ الحكم في من هم دون سن الثامنة عشرة. القصيدة كتبها رفيق ذلك الشاب في الزنزانة محمد الباجي و لحنها بنفسه. واصل الزاهي ابداعاته الى غاية التسعينيات من القرن الماضي حين اندلعت الحرب الأهلية فتوقف عن الغناء احتراما منه لأرواح الضحايا و رفض الغناء و القتلى يسقطون بالآلاف رغم الطلب المتزايد عليه في الأعراس.
    يبقى الشعبي , رغم ما يؤخذ على بعض فنانيه من أمية  و انحراف, أحد أهم الطبوع الغنائية في الجزائر. بفضله حافظ على الجزائريون على ميراثهم الثقافي و قيمهم الإجتماعية. فليس غريبا إذن ان يلقب الجزائريون مطربي  الشعبي بالشيوخ و هو لقب لا يطلق إلا على من بلغ من العلم مرتبة ثم ساهم في نشره. فقد تعدى دور مطرب الشعبي في بعض الفترات دور الإمام لأن دور الوعظ و الإرشاد كان محصورا في المسجد فقط أما شيخ الشعبي فهو يعظ في كل مكان إذا وجد من يستمع اليه بالطبع.  
المقنيــن (البلبل) الزيـــن




يا المقنيـن الزيــن

يـا صفــر الجنحيــن

يا حمــر الخديـن

يـا كحيــل العينيــن

هادي مدة وسنين انت في قفص حزين

تغني بصوت حنين

لا من يعرف غناك منين

كي تغني تتفكر ليام لي كنت فيهم حر

تفرفر فالهوا طاير و تعرّش فالشجر

منين راد ربي الحنين

تحكمت من ذوك الجنحين

لا ما ولا قوت بنين

يا المقنين الزين

اللي ما جربش لمحان ما يجيبلك خبر

واللي ما عرف قيمتك يا طير يشويك على الجمر

اللي مقدّر من عند ربي لازمو الصبر

 
يـا صفــر الجنحيــن

يا حمــر الخديـن

يـا كحيــل العينيــن

هادي مدة وسنين انت في قفص حزين

تغني بصوت حنين

لا من يعرف غناك منين

ليست هناك تعليقات: