السبت، 18 يناير 2020

لم أتوقعها

 
 تناول الجميع فطور الصباح الذي جاد علينا به العساكر.  كلما نهض العسكر واستعدوا لمغادرة المكان عادوا للجلوس مرة أخرى. لقد صاروا أكثر لطفا و لست أدري هل أعزو ذلك إلى كرم احميدة الحاتمي ام للنقاش الذي دار بيننا. أشركنا الجميع في  الحديث. ضحكنا على عربية  أبو بكر المالي وفرنسية احميدة و انجليزية ربيع و هو يحاول التحدث بها مع لوركان الايرلندي. حاول العنابي استفزازي بتقليد طريقة الجواجلة في نطق الكلمات العربية التي تحتوي على حرف القاف و لكنه لم يفلح. 
    انتقلنا بعدها الى النكت وقد كان احميدة أكثرنا ضحكا لانه لم يكن يعرف أيًّا منها. ضحك المسكين حتى رأينا الدموع تنهمر من عينيه من شدة الضحك. اما لطفي العنابي فقد تنازل عن تعجرفه و أبان لنا عن شخصية مرحة أشبعتنا ضحكا وخاصة طريقة تقليده للهجة الجيجلية و السكيكدية. 
      كنت اعتقد أن النكتة لا يمكن ان تتجاوز حدودها الاقليمية لكن النيجيري إيغابي جعلني أغير رأيي فيه و في إقليميتها. أما الايرلندي لوركان فقد جعل ضحكاتنا تغمر المكان بسبب تهكمه على البريطانيين و الفرنسيين. كنت بصدد ترجمة ما أراد السائح الايرلندي ان يقوله. كنت أحسبها نكتة جديدة فطلبت من ايغابي أن يتوقف عن الضحك حتى أسمع جيدا. لكن لوركان فاجأ الجميع بحديثه عن نظرته الى الجزائر قبل أن يأتي إليها. "كنت أعتقد اني سأجد شعبا همجًا يقتل بعضه بعضًا كما يقتل الأجانب الذين يعيشون معه. كنت اعتقد انكم شعب يذبح بعضه بعضًا يوميًا كما تّذبح الخرفان أيام عيد المسلمين. كنت أتوقع ان أرى الجثث تملأ الشوارع و ان نظراتهم ستقتلني قبل سكاكينهم حالماألج بوابة حدودهم. كنت اتوقع أن يسلبني موظف الحدود  اموالي و حقائبي و يامرني بالعودة من حيث أتيت. كنت اتوقع انه إذا لم يفعل شرطي الحدود ذلك فسيسلمني سائق سيارة الاجرة الى أي إرهابي فيذبحني.  لم أجد سوى الترحاب و الدفء أينما حللت. اول شرطي صادفته في تلمسان عرض علي المبيت في منزله ووعدني بانه سيحميني من كل مكروه. لقد أوصى زملاءه بمرافقتي و الحرص على سلامتي حتى وصلت الى وهران. كنت أعتقد أنهم يفعلون ذلك بمقابل و لكنهم رفضوا قبض حتى مقابل مبيتي و إطعامي. صدقوني لقد زرت امريكا من قبل و المكسيك و البرازيل و حتى المغرب فلم أجد كل هذا. أنا لا أفهم سبب المجازر التي نسمع عنها في بلدكم. لا تبدو عليكم هذه القسوة التي يذبح بها المدنيون العزل في الحواجز الأمنية. حينما أخبرت والدتي بمشروعي زيارة بلدكم سقطت مغشيا عليها. لم تصدق أنني فعلا انوي ذلك. لن تصدق حتما حين أخبرها عن هذه السهرة الحلم. لن تصدق حين أقول لها أني قضيت الليلة مع كل هؤلاء كل هذا الوقت من الليل حتى طلوع الفجر في هذا المكان الموحش من الصحراء. لن يصدق والدي أن إبنه لوركان الذي كان يعاني من تنمر زملائه في المدرسة. لوركان الذي طالما وصفه زملاؤه بالدجاجة لخوفه من الخروج ليلا يجلس الأن وسط من يصفهم العالم بالارهابيين يقص عليهم النكت حول الانجليز و البريطانيين. لن يصدق والدي أني الأن وسط أكبر صحراء في العالم مع جزائريين و أفارقة على الخامسة صباحا نتقاسم الجبن الارجنتيني الفاخر و الشاي التارقي الرائع مع عساكر و مدنيين من شتى انحاء الجزائر و افريقيا ونتبادل النكت عن بعضنا البعض بل ويبكي بعضنا ضحكا.
      لن تصدق أختي انجيلا  التي ودعتني و أنا أغادر بيتينا باكية و كانها لن تراني ثانية حين احكي لها عن هذه  الليلة التي ان أنساها كيف ترافقنا الغزلان و تجري أمامنا دون ان يصطادها من نقول عنهم دمويون. لن تصدق كيف يخدمناا هؤلاء الجزائريون و الابتسامة لا تكاد تغادر محياهم. لن تصدق حينما أقول لها أنهم يتنازلون عن ثمن بضاعتهم إذا كان الزبون اجنبيا كرما منهم.  من نصفهم وحوشا يستقبلوننا في بيوتهم و يقدمون لنا أجود ما عندهم. كيف أقنعها أن هؤلاء الذين منحوني كل هذه المودة و الكرم و هذه اللحظات السعيدة هو الدمويون الذين نسمع عنهم في نشرات الأخبار يذبحون بعضهم بعضا؟"
    تمكنت بصعوبة من ترجمة ما قاله لوركان الايرلندي الذي كان يتحدث و هو يغالب دموعه. احترت بين ترجمة الكلمات و المشاعر في نفس الوقت. اخترت ان أنقل كل ما قاله لوركان بكل معانيه و مشاعره. أما الربيع الميلي فقد كان يحاول جاهدا ان لا يرى عناصر فرقته قائدهم و هو يبكي بينما أطلق البقية العنان لأحاسيسهم فنزلت دموعهم براقة بينما أخفى آخرون وجوههم بين أيديهم. 
    ما أن أكملت ترجمتي حتى نهض ربيع و من معه من العساكر يريدون الرحيل قبل ان تفضحهم مشاعرهم أكثر. وقفنا لتحيتهم. تقدم مني ربيع قائدهم الميلي و مد ذراعيه لاحتضاني قائلا:
  -- يا سي احسن...واللهما نسيت هذه  القعدة حتى نموت. هذا الايرلندي بكاني اليوم. قل له والله حاب نحضنه.
  -- ما تنساش تتعلم الانجليزية..سي أحسن لن يكون متوفرا دائما.
 -- والله يا أستاذ مانسيتكم.. وعدني بلي نبقاو على اتصال.
 -- اعدك..اتهلا في روحك.سلام
 -- استاذ حسان..هاو العنابي يقول لك سامحني..ان شاء الله تتسقم الامور ونجي نزوركم في جيجل.
 -- ان شاء الله ..اتهلا في روحك...بالسلامة...ربي يحفظكم.
    ركب العساكر سياراتهم . شغل السواق محركات السيارة بينما عاد العنابي بكيس من علب الجبن الارجنتينية الفاخرة و وضعها في يدي..تفضل يالشيخ...هذه من عندي ...اتهلاو في رواحكم..سلام.

ليست هناك تعليقات: