ترجلنا أنا و السائق و صاحبه العربي من السيارة و بقينا ننتظرالبقية لانهم كانوا يغطون في نوم عميق. أيقظت إغابي النيجيري والايرلندي بينما تكفل احميدة بإيقاظ الافريقي الثاني الذي لم يتكلم أبدا منذ ان انطلقنا من عين صالح. طلب منا مرافق احميدة ان نتبعه بينما تكفل هو بفتح صندوق السيارة الخلفي و أخرج بعض الأغراض. عرفت فيما بعد أنها مستلزمات تحضير الشاي الذي وعدني به احميدة في الطريق.
واصلنا تتبع صاحبنا العربي إلى أن توقف وسط أرض مسطحة فهمت فيما بعد انه كان يبحث عن منطقة خالية من الصخور خوفا من الأفاعي و العقارب التي تملأ المكان. القمر بدا لي وكأنه كوكب المشتري بعد ان كبُر حجمه ومن شدة إضاءته كنت استطيع ان أرى تضاريسه و أوديته بكل وضوح. حتى الإرلندي بدا عليه الانبهار بهذا المشهد و أخبرني انه لم يسبق له أن رأى في حياته مشهدا كهذا.
-- يا للروعة..صدقني لم أشاهد القمر أقرب الى الأرض قبل هذا اليوم..أشعر كأني أستطيع ملامسته لو صعدت الى ذلك الجبل.
--حتى النجوم تبدوا و كأنها أكثر إنارة هذه الليلة. تبدو و كأنها ليلة غير عادية.
سألت احميدة الذي أقبل يحمل أغراضه عن سر هذا المشهد العجيب فأجابني انه لا يملك تفسيرا لذلك لأنه أعتاد على رؤيته مذ كان صغيرا.
-- ربي رحيم بنا. يعني كل هذا الفراغ يا جماعة وهذا الصحراء و هذه الرمال و الأحجار و يزيد يظلمها علينا؟ ربي رحمنا بهذه بالانوار حتى نعرف طريقنا.
--القمر أكبر حجما هنا يا حميدة...لم أشاهده هكذا من قبل.
-- ريّح يا شيخ وسترى العجب كي تشوف الشمس تطلع وراء الجبال هذيك.
وكان الايرلندي فهم اننا كنا نتحدث عن ذلك المشهد فطلب مني ان أترجم ما قاله احميدة عنه.
-- ليتني كنت استطيع استعمال الكاميرا هنا. إنه مشهد لا يُنسى.
استأذننا في الذهاب الى السيارة و أحضر حقيبته بينما جلسنا نحن على الأرض , بعد ان أكد لنا صاحبنا العربي أن الرمال هنا نظيفة و حبّاتها كبيرة كحبات الكسكسي و لا تلتصق حتى بملابسنا. جلس الجميع حول دائرة حجرية تبين لنا انها استخدمت من قبل في اشعال النار فقد كان الرماد و بقايا الحطب السوداء يغطيها.
انشغل السائق بجلب الحطب من بقايا الاشجار اليابسة بينما أحضر صاحبه بعض الحشائش اليابسة و وضعها داخل الدائرة بينما أحضر حميدة حزمة من الاعواد ورتبها بإتقان فوق تلك الدائرة الحجرية.
شعرت بالبرد يتسلل إلى جسمي عن طريق قدماي فهما أول من تتحسس أي هبوط في درجة الحرارة. بدأت يداي ترتجفان من شدة البرد. لم أكن الوحيد الذي شعر بذلك بعد أن استعجله صاحبه العربي ثم الافريقي الصامت الذي أنطقه البرد أخيرا. الوحيد الذي لم تبدُ عليه علامات الشعور بالبرد هو صاحبنا الايرلندي. لقد أخرج ورقة و قلم رصاص و راح يرسم المشهد ويدون مع الرسومات ملاحظات باللغة الانجليزية مستعينا بسيجارة من علبته الفاخرة.
أشعل العربي عود الثقاب و وضعه بدقة تحت كومة الأعواد وسط الحشائش اليابسة. التهمت الأعشاب عود الثقاب المشتعل بسرعة و كأني بها هي الأخري أحست بالبرد القارس الذي كان يلدغنا. انتشرت السنة اللهب الى الاعواد بسرعة. لم يتطلب الأمر ان ينفخ فيها ذلك العربي حتى تلتهب. سارع الجميع الى مد أيديهم لالتقاط ما تيسر من الحرارة المنبعثة من موقدنا. اما صاحبنا الايرلندي فواصل عمله غير مكترث لا بالبرد الذي كان يسود المكان و لا بالنار التي كانت توفر لنا مزيدا من الدفء.
لقد أكمل الورقة الاولى ثم شرع في الثانية. أخرج علبة الالوان و شرع في تلوين ما رسمه حتى انه رسم السنة اللهب المنبعثة من النار و رسم الحضور بدقة عجيبة حتى انه كان بأمكان كل واحد منا أن يميز نفسه فوق الرسمة.. كنا ننظربإعجاب لما كان يفعله مستعينا بضوء القمر المنير و النار.لم يتمالك صاحبنا العربي نفسه و سألني ضاحكا:
-- يا شيخ...والله حتى تسقسيه.
--علاش نسقسيه؟
-- قل له يا شيخ ..اسمي مكتوب؟
كنت الوحيد الذي فهم قصده. ضحكت كثثيرا لأني أنا أيضا تذكرت مباشرة مسرحية عادل إمام " شاهد ما شافش حاجة'' بعد ان رأيت الايرلندي يدون جملا الى جانب رسوماته.انتظرت بفارغ الصبر أن ينتهي مرافقنا الاوروبي من عمله لأسأله عما كان يفعل.
-- أنا معتاد على ان ادوّن كل شيئ جديد أراه في كل بلد أزوره. انا أكتب حتى عن الحشرات التي أشاهدها لأول مرة.
ليؤكد كلامه أخرج ورقة و أراني نملة قام بلصقها على رمال على الورقة وقام بكتابة ملاحظاته عن النملة.
--هذه نملة لم أشاهد مثلها في حياتي. نملة معدنية كانها من الفضة عثرت عليها في عين صالح. امسكتها و حملت بعض الرمل في جيبي و عندما وصلت الى الفندق قمت بلصق الرمل على المذكرة ثم الصقتها على الرمل ..ساحتفظ بها كذكرى من صحراء الجزائر. ثم اخرج مذكراته التي كتبها عن رحلته في المغرب.
لم ينتظر احميدة كثيرا بعد ان أنهى الايرلندي شرحه لما يفعل ليطلب مني أن أترجم لهم ما قاله.
-- شفت يالشيخ ..هذه ناس تاع علم..شوف السوادين هاذوا..والله رايحين جايين و الله ما يكتبوا حرف...شوف الناس.
-- وعلاش انت راك تكتب؟
-- والو..ياولدي ماشي كيف كيف...انت وليد عين صالح كاش ما عمرك كتبت؟ أنا طاكسيور..ما عندي وقت.
-- اولادك تاني ما يعرفوا يخدموا ذاك الشيء ...أحنا قاع كيف كيف كي السوداني كي العربي كي الترقي.
-- كي الشناوي كي الجيجلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق