الثلاثاء، 28 يونيو 2011

آسف يا مدام

الوزيرة زهور ونيسي التي رفض المدرس المصري مصافحتها
      لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي زارتنا فيه وزيرة التربية الوطنية ذات يوم من أيام 1988. كنت في السنة الثالثة و مقبلا على أهم امتحان في حياتي. كنا ندرس مواد اﻷدب العربي و الفلسفة و التاريخ و الجغرافيا و اللغة الانجليزية و اللغة الفرنسية و العلوم الطبيعية و العلوم الفيزيائية و الرياضيات و التربية البدنية. كان من بين المدرسين استاذ مصري متدين جدا إسمه محمد عبد الله.و أذكره جيدا ﻷنه كان ملتزما جدا و كنت الوحيد الذي كان يكلمه خارج المدرسة ﻷننا كنا نصلي في نفس المسجد و غالبا ماكان ينتظرني بعد صلاة العشاء لنعود مع بعضنا البعض. كان الشيخ محمد دائم النصح و التوجيه سواء في القسم او خارجه. ذات يوم رآني أقفز فوق جدار الثانوية مع صديقي و زميلي ياسين فانتظرنا ووبخنا ملقيا اللوم على ياسين الذي انزعج و غضب منه غضبا شديدا لكنه اسرها في نفسه و لم يبدها له احتراما له.
     زيارة  الوزيرة غير المحجبة الى الثانوية و الوفد المرافق لها من السلطات المدنية و العسكرية انتظرها الجميع على أحر من الجمر. سهر المدير على إعداد و توفير كل أسباب النجاح لها ﻷنه اعتقد انها ستفتح له أبواب الترقية و النجاح في الدنيا قبل اﻵخرة. فكر بمساعدة مدير التربية و السلطات الولائية في كل صغيرة و كبيرة و ما يجب أن تراه و ما يجب ان لا تراه كما فكروا في من سيستقبلها و من لا يستقبلها من التلاميذ و المدرسين. لم ينم المدير تلك الليلة فقد أصابه اﻷرق و هو يفكر في دنيا سيصيبها ووزيرة سيستقبلها. خرج على الثانية صباحا ليتفحص ثانويته فسلك الطريق الذي ستسلكه السيدة  الوزيرة ثم دخل الى مكتبه و تفحص جدول الزيارة و مخططها و توقيت اﻷساتذة. " اﻷستاذ محمد عبد الله المصري أفضل من يمكن ان يقدم المثال على نجاحي في إدارة الثانوية. فهو ملتزم مواظب و لم أسجل عليه غيابا او تأخرا طوال عامين. ثم إنه يحسن الكلام و لبق جدا و سوف يشرفني." قالها المدير محدثا نفسه و هو يفرك يديه من شدة الفرح بما ينتظره من الشيخ. أمعن المدير في تخيل الموقف و الشيخ محمد يحدث الوزيرة بعربيته الأزهرية الجميلة عن حسن تسيير المدير و تفانيه في العمل و حرصه على توفير الجو الملائم للتلاميذ و المدرسين فأخذ يطبل بيديه على المكتب فرحا مسرورا بآداء الشيخ محمد و رضاء الوزيرة عنه." ربما ستأمر بترقيتي الى سكرتير العام لمديرية التربية او مديرا للتربية. سائق خاص و و مسؤول تشريفات تحت تصرفي. سوف أغير سيارتي و اشتري بيتا جديدا يليق بمنصبي." يسترسل المدير في خياله و هو يغادر مكتبه الى بيته. " الشيخ المصري بعربيته الجميلة سوف يقنع السيدة الوزيرة و حتما سوف تقرر ترقيتي...سأغير زوجتي او سأتزوج عليها...يا رب وفق الشيخ محمد عبد الله. اللهم اشرح لسانه و..و" نسي اﻵية بعد أن وصل الى البيت و رأى زوجته في الشرفة و هي تراقبه. 
     نهض المدير باكرا و لبس البدلة الجديدة التي اشتراها للمناسبة قبل ان يغتسل فبللها مما أغضب زوجته التي نبهته الى اﻷمر لكنه لم يستمع إليها و لتجفيفها قامت بكيها من جديد . انتبه الى ربطة العنق فلاحظ أنها كانت مائلة فخرج و نادى على ابن جاره العسكري ليربطها له ﻷنه نسي الطريقة. خرج جاره الشاب العسكري فربطها ثم دخل و هو يقول في نفسه" تبا لك من مدير. ألهذا أيقظتني؟". وصل المدير الى المكتب ليصل بعده مسؤول التشريفات للوزيرة فدرسا معا  تفاصيل  الزيارة فوافق عليها و خرجا لمراجعتها ميدانيا. 
   بعد ساعتين وصلت الوزيرة و الوفد المرافق لها. دخلت السيارات السوداء اﻷنيقة الى الثانوية و نزلت الوزيرة بينما اشرأبت عنق المدير مع  طاقمه الإداري و هي تراقب خطوات الوزيرة بل تعدها عدا. كانت زوجة المدير قد صعدت فوق سطح العمارة و راحت تنتظرو هي متخفية اللحظة التاريخية و من شدة الفرحة نادت على جارتها زوجة الناظر لكي تصعد و تشاهد مهعا لحظة تسليم ابنتها الورود للوزيرة و تقبيلها أياها و  مصافحة زوجها المدير لها. يصافحه الجميع و هو يتصبب عرقا من هول اللحظة. لا يصدق نفسه و هو يسير جنبا الى جنب مع وزيرة التربية الوطنية  ثم يستعرض من لوح وضع خصيصا للزيارة أرقاما و إحصاءات عن الثانوية التي يسيرها بنجاح. 
   كدليل على نجاح تسييره للثانوية و مدى انضباط الطاقم التربوي و احترام التلاميذ طلب المدير من الوزيرة ان ترى بنفسها ذلك فتوجه بها و الوفد المرافق لها الى حجرات الدراسة. يتجاوز القسم اﻷول حيث استاذ الكيمياء المهمل  ثم الحجرة الثانية المغلق بابها حيث يوجد استاذ الانجليزية الذي تسمع صراخ تلاميذه من خارج اسوار الثانوية لكنهم رغم ذلك كانوا هادئين ذلك اليوم. يصل الوفد الى حجرة الاستاذ محمد عبد الله. يدق الباب بأدب و يطلب من الوفد الدخول قائلا: " هذا من بين أفضل اﻷساتذة الذين انتدبتهم الوزارة للعمل في الجزائر. مثال للمربي المنضبط الناجح." يقف التلاميذ صفا واحدا فيأمرهم الاستاذ بالجلوس بعد ان طال اﻷمر. يقف الاستاذ محمد بمئزره اﻷبيض الجميل أمام الوزيرة مبتسما ابتسامة خفيفة و يقول لها مرحبا. يتقدم المدير منهما و يقول للوزيرة: " السيد اﻷستاذ من دمياط في مصر مثال للإنضباط و التفاني في العمل. الاستاذ محمد عبد الله مدرس العلوم الفيزيائية."  تمد الوزيرة يدها إليه مصافحة و هي تقول له " نتمنى لك إقامة طيبة " . فيرد اﻷستاذ بعد أن سحب يده اليمنى الى الخلف رافضا مصافحتها امام المدير و الوفد المرافق له: " آسف يا مدام." 







هناك 3 تعليقات:

fatma يقول...

موقف مشرف جدا للاستاذ المصري ويستحق النشر
http://elgomana.blogspot.com/

Hatem يقول...

فعلا زمان كان المدرسين المصريين و الجايه و اعماله المصريه فى كل مكان فى الوطن العربى بتوصل الوطن العربى ببعضه و بتخليه كتله واحده .. لكن مع الأسف دلوقتى اتفرقنا

غير معرف يقول...

Hey There. I found your blog using msn. This is a very well written article. I will be sure to bookmark it and come back to read more of your useful information. Thanks for the post. I'll definitely return.