الاثنين، 23 مايو 2011

مع زكريا ..في قلب العاصفة


           نهاية شهر ماي في عين صالح في تسعينيات القرن الماضي كانت تبعث فينا نحن القادمين من الشمال شعورا بالملل لا نظير له لأن العطلة الصيفية تقترب و معها يشتد الحر و الزوابع الرملية. يصبح معها انتظار العاشر من شهر جوان كانتظار الإفراج من سجن عسكري.
              كان من عادتنا أنا و زميلي زكريا, مدرّس الفيزياء القادم من الجلفة, أن نخرج بعد العصر الى الواحات الواقعة الى الشمال من عين صالح نتجول بين بساتينها البسيطة و نخلاتها الباسقة حتى إذا شعرنا بالملل صعدنا الى الكثبان الرملية المطلة على المدينة فنجلس على رملها نتبادل أطراف الحديث و أيدينا تداعب حبات الرمل الصغيرة التي كانت تشبه  بذور الخردل. كنا نحملها في أيدينا و نحن نتحدث عن أحلامنا و ذكرياتنا و تلك الحبات تنساب بين أصابعنا كما تنساب شقيقاتها من ساعة رملية.
             يوم الثلاثاء الأخير من شهر ماي قررنا أن نقضيه في الواحةشمال المدينة. توجهت مع زكريا بعد العصر الى الواحة بعد أن عانينا طويلا من حرارة ذلك اليوم. اقترحت عليه أن نذهب بعيدا عن المدينة على أن نجعلها جنوبنا. تلاشت المدينة بضوضائها و وضجرها عن أعيننا حتى خيل إلي أني مهاجر الى الحبشة هروبا من بطش قريش عين صالح. كانت الرمال تمتد على مد البصر في منظر رهيب  شبهه زكريا ببحر لُجّي تلاطمت أمواجه من شدة كبرها.  كنت أذكر زكريا من حين لآخر بأن نتجه دائما نحو الشمال جاعلين الشمس على يسارنا فإذا ما قررنا العودة درنا إلى الخلف مباشرة. اختفت المدينة و الواحة عن أعيننا و لم يعد يظهر منهما شيئا أما نحن فأصبحا و سط تلك الكثبان من الرمال الحمراء و الصفراء مجرد ذرتين متناهيتين في الصغر. كان هبوطها سهلا أما صعودها فكان مرهقا خاصة بعد أن بدأنا نشعر بحرها و هو يلفح أقدامنا العارية الا من نعال خفيفة. أكملنا السير و إذا بزكريا يتوقف فجأة و يصيح:
مع زكريا فوق الكثبان قريبا من الواحة
-- ضعنا يا أحسن....ضعنا ورب الكعبة.
--لا لم نضع...مازلنا محافظين على خط السير...ما الذي يجعلك تتخيل ذلك؟
--إنها قادمة نحونا...يا رباه ...كم هي هائلة...فلندر إلى الخلف و نسرع قبل أن تلحق بنا
       كنت أعتقد أن زكريا كان يتحدث عن إحدى الأفاعي أو الحيات التي طالما حكى لنا عنها أهل الصحراء قفزت من مكاني مفزوعا انظر في الرمال من حولي.
--عما تبحث ...أنظر الى هناك...إنها عاصفة رملية هوجاء قادمة من هناك...هيا فلنسرع بالعودة.
-- نظرت الى السماء من فوقي فإذا بي أرى خيطا لولبيا أوله في السماء و آخره في الأرض يقترب منا بسرعة هائلة فغطى الأفق الرحب و اختفت الشمس من على يسارنا و عم الغبار . كان صوتها و هي تقترب منا مرعبا شعرت معها أن الساعة قد دنت و أن السماء انفطرت و الكواكب انسجرت.
--إلى الخلف در...هيا زكريا يجب علينا أن نتجه جنوبا الآن.
--ستلحق بنا و لن نعرف يميننا من شمالنا...أسرع
          جرينا و أسرعنا الخطى و ما هي إلا لحظات حتى أضحينا في قلب العاصفة. تغير لون السماء و اختلط بلون الأرض و لم نعد نرى شيئا. امتلأت أعيننا غبارا و اشتد الحر مع قدوم العاصفة و معها اشتد العطش بعدما جفف حلوقًنا الغبار والجري
-- قطعنا  ثلاثة كثبان يا زكريا...بقي واحد فقط و سنصل إلى الواحة.
--كيف عرفت وسط هذه الأهوال؟...إننا نسير حتما في الاتجاه الخطأ
-- كف عن الكلام الآن...أنا لا أسمع شيئا
و صلنا إلى آخر الكثبان بعد أن نال منا العطش و التعب
-- ها قد وصلنا يا أحسن..نحن نتجه حسب قولك الى الواحة الآن مع أني لا أرى شيئا   
--  أكمل السير...بعد قليل سنصل
--  ضعنا يا زكريا ....أنا لا أرى سوى الرمال...لا واحة و لا هم يحزنون
-- استمر في المشي....ربما نحن قريبون من بستان الحاج باسويلم
-- نحن نصعد الكثبان من جديد يا صاحبي...لا توجد واحة
               صعدنا إلى القمة جريا ثم هبطنا من جديد فلم نجد الواحة.  صعدنا الكثبان التي تليها فلم نجد أثرا للشجر أو النبات. خارت قوانا من شدة التعب و العطش فجثوت على ركبتي و كذلك فعل زكريا. نظرت إلى ساعتي فإذا هي تشير إلى الثامنة مساء.
--         انها الثامنة يا زكريا...سنتوقف عن المشي و إلا ابتعدنا أكثر عن المدينة فلنقض الليلة هنا.
--         أجننت؟...  سوف نموت عطشا...لن ننتظر إلى الصباح.
--         خذ برأيي ....نبيت الليلة هنا و في الصباح نكمل السير.
--         كلا ...لن أبيت الليلة هنا وسط الأفاعي والعقارب
--         لدي فكرة...ما رأيك أن نفعل ما فعله الهولنديان عندما تاها بدراجتهما وسط الصحراء
--         و ماذا فعلا؟
--         أحرقا الدراجة كي يرى الناس اللهيب فينقذوهما.
--         أنا سمعت القصة و لكنهما ماتا عطشا. و نحن ليس لدينا ما نحرقه
--         طيب نحاول أن نشعل نارا بملابسنا
--         والله لن أفعل....ستحرق الشمس أجسادنا في الصباح إذا لم يعثرو علينا
              توقفنا عن الكلام و قررنا المبيت حتى الصباح. كان العطش قد نال منا. هدأت العاصفة و توقفت الريح. كنا في قمة أحد الكثبان و حيدين و سط بحرمن الرمال .عم الظلام و معه سكون رهيب . استلقيت على ظهري  و نظرت الى النجوم تتلالأ في السماء . حاولت تحديد موقعنا من خلالها و لكني عجزت. نظرت الى زكريا فإذا هو يغط في نوم عميق... توسدت ذراعي و أردت النوم لكن العطش حبسه عني.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

قصة رائعة لم نكن نتصور هذه النهايةكانت حقا مفاجئة