في المدينة الصحراوية جدا عين صالح اعتدت على النهوض باكرا و التوجه الى مقهى بأقصى المدينة أين أتناول فطور الصباح أتبعه بشاي و سيجارة. أبقى لوحدي في ذلك المقهى الى غاية العاشرة صباحا لأعود الى بيتي لتحضير وجبة الغداء. كان يوم اثنين من ربيع عام 1994. استيقظت كعادتى على الساعة السادسة بعد ان شعرت بحرارة الشمس تتسرب الى غرفتي من سقفها. بقيت في الفراش لعلي اسمع صوت الريح و هي تهب على هذه المدينة في مثل هذا الفصل من كل عام فتغير تضاريسها و تجبرنا على الاختباء داخل مساكننا اتقاء للغبار.إنه غبار من نوع خاص يلف المدينة فلا يترك أبيضا ناصعا ولا أسودا حالكا. كنا نرتدي لون ألاتربة التي تحملها الريح من الكثبان المحيطة بهذه المدينة الساخنة جدا و صدق أهلها حين قالوا عنها أنها قاعة انتظار جهنم.
أديت صلاة الصبح و خرجت أريد مقهى الكثبان. مررت بمنزل صديقي رضوان فوجدت النافذة موصدة قأيقنت أنه عاد الى النوم كعادته بعد آدائه لصلاة الصبح في وقتها. توقف أمامي صديقي عبد الله بمركبته مقترحا علي توصيلي فشكرته و رفضت الصعود معه بكل أدب لأني كنت أريد أن أقطع المسافة مشيا على الأقدام طلبا للصحة و العافية. إنها الثامنة و النصف و الشارع ما زال خاليا الا من بعض المارة و أغلبهم من المهاجرين الأفارقة الذين يجتمعون امام قصر باجودا بحثا عن العمل في انتظار الاتجاه نحو الشمال ثم الى أروبا.
أصل الى المقهى بعد أن أكون قد مررت بأزقة القصور الضيقة حتى لا أجبر على ركوب السيارات التي تتوقف بكل أدب أمامي مقترحة علي توصيلي. أتخذ مقعدي في الطاولة الأخيرة فيأتي جبريل القهوجي مسرعا يمسح طاولتي ثم يستأذن بالجلوس معي بلغة فرنسية ذات لكنة إفريقية.
- صباح الخير سيدي. هل يمكنني الجلوس معك؟
-صباح الخير يا جبريل و لا جبرائيل
- هاها ...كما تريد يا سيدي- جبريل أو جبرائيل ...سيان.
-أنت دائما تنسى يا جبريل..كم مرة قلت لك أن تحضر طلباتي قبل أن تجلس.
-عذرا يا سيدي...لكني لم أنس...أنا أخاف أن يأتي المعلم ودود و يراني جالسا معك فيطردني.
- لا أريد فطورا اليوم..أحضر الشاي و تعال بسرعة.
-تفضل يا سيدي..شاي بالنعناع...هل يمكنني الجلوس؟
- تفضل...خذ راحتك
-سيدي ...أود
- يرحم والديك توقف عن قول كلمة سيدي هذه...و الله قلقتني
-عذرا يا سي....أنا درست في زاوية في السنغال و اعتدت على قول هذه الكلمة احتراما لأساتذتي
- لكنك اليوم إنسان كبير و مثقف..أنت خريج جامعة داكار في السنغال
-فعلا يا سيدي...أه عفوا ..يا
-أحسن...نادني أحسن
-أوكي ...يا س...حسن أم أحسن؟
- أنا في الأصل حسن و أنا في الأصل توأم و أخي عليه رحمة الله إسمه حسين..لكن أهل جيجل يسمون أحسن بدلا من حسن ...على كل حال. لا يهم...أحضرت لك شيءا عن مالك بن نبي كما طلبت.
- أوه شكرا جزيلا يا سيدي ...شكرا ...عفوا حسن
سلمته بحثا عن المفكر الجزائري مالك بن نبي ثم حكيت له عن قصة حياته بشكل أوسع و عن نظريته في النهضة و منهجيته في التفكير و كان جبريل منصتا للغاية و لم يكن يقاطعني الا بعد أن ينادي عليه بعض الزبائن. يقدم شايا لهذا و قهوة لذاك ثم يعود ليسألني عن مالك بن نبي و فكره بعد أن أعجب به إعجابا شديدا. لم يكن جبريل بحاجة لتدوين ماأقول له فقد كان يحفظ كل شيء تقريبا.
- أخبرني اليوم عن فكرة القابلية للأستعمار و ماذا يقصدا مالك بن نبي بها؟
-إن الإنسان المستعمِر يستهدف الإنسان المستعَمر فيحطم من نفسيته أولا قبل أن يحطم بلاده فتضعف ثقة الإنسان المستعمَر بنفسه وبحضارته وبتاريخ وبانتمائه ويصبح مهيئا نفسيا لتقبل أي نوع من الوصاية تطرح عليه.
-أعطيك مثالا.
كنت بصدد أعطائه المثال حين أمسكه المعلم صاحب المقهى من رقبته و انهال عليه سبا و شتما. قفزت من مكاني طالبا منه أن يتركه و شأنه. لم يتحرك جبريل رغم ما سمعه من إهانات لفظية في حقه وحق بني جنسه من السود . طلب منه الانصراف و عدم الجلوس مع الزبائن مرة ثانية والا سيطرده شر طردة. امتثل جبريل لأوامره و عاد لمسح الطاولات من جديد. شربت شايي ثم ذهبت الى المحسب او الكونتوار دفعت ثمن الشاي و قلت لجبريل:
- أنت خير مثال للقابلية للإستعمار يا جبريل. سلام

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق