شهد يوم الثلاثاء هطول أمطار لم يسبق ان هطلت على مدينة الطاهير بتلك الغزارة.استيقظت على وقعها و هي تجلد بزخاتها نافذة غرفتي. كانت الساعة تشير الى الرابعة.و من عادتي حين يجافيني النوم ان أمد يدي الى جهاز التحكم عن بعد ﻷشغل جهاز التلفزيون ولكن البرد الذي شعرت به أجبر يدي المتسللة الى العودة الى دفئ الفراش.صوت المطر الغزير عاد بي الى سنوات السبعينيات وما أحلاها سنوات السبعينيات رغم البؤس المادي و التكنولوجي.
كنت أقاسم أخي محمد الغرفة المطلة على بستان كانت الوالدة رحمها الله تحرص على استغلاله بزراعة شتى أنواع الخضر و أشجار الفواكه صيفا و شتاءا.أما بابها فيفتح على الفناء مباشرة. كان منزلنا جميل أو هكذا كنت أعتقد و ﻻ أزال. به ثلاث غرف و مطبخ واسع و حمام و بينهما فناء واسع.تغطيه دالية كبيرة غرسها والدي رحمه الله في أواخر الستينيات و مازالت كريمة جوادة الى يومناهذا تطعمنا بعنبها الاصفرالذهبي اللذيذ كل صيف.
تم بناء المنزل على يدي المقاول صالح جرداوي أما التنفيذ فكان للمرحوم خلالف السعيد من قرية ظهر وصاف و هو والد أحد اعز اصدقائي و يدعى فاتح حيث تعرفنا على بعضنا البعض حين جمعتنا ثانوية ناصري رمضان سنة 1985. أما التصميم فراعى الطراز السائد في الطاهير آنذاك و هو الطراز الذي جلبه المعمرون الفرنسيون معهم من منطقة اللورين و يزين من خلاله البناء بسقف أحمر أو برتقالي و هو لون القرميد أما الفناء فهو ثقافة أسلامية خالصة. هذا الطراز اختفى بعد مجيء ثقافة الدالة و المحلات من تحت و السكنة من فوق ليستيقن البعض بعد ذلك ان الحل في جمع الدالة مع القرميد أي طوابق مغطاة بالاسمنت مع سقف قرميدي كما فعل جارنا صالح سواعدي و يليه ابن عمي سليمان لكن المشكل يبقى دائما في إنهاء الأشغال بطلاء المنزل من الخارج و هو ما لم يفعله الإثنان.
كل هذه الأفكار مرت برأسي و أنا أستمع لصوت الرعود و صوت المطر يجلد نافذتي. حنيني ازداد الى سبعينيات القرن الماضي و صوت المطر الغزير يشغل ذاكرتي التي عادت بي الى تلك اللحظات التي كنت استيقظ فيها مع تباشير الصبح ﻷجد والدتي تتفقدنا واحدا واحدا فتعدّل غطاء هذا و تزيد غطاء ذاك قبل أن تفتح باب غرفتنا المطلة على الفناء بهدوء خشية إيقاظنا.
تغتسل أمي و تؤدي صلاة الصبح لتتوجه مباشرة للاسطبل خارج المنزل لتحلب البقرة ثم تعود مسرعة لتوقظ زوجة أخي الأكبر لالة نورة لتحضر لنا بعض الفطائراللذيذة نتناولها مع الحليب. ﻻ زلت أتذكر رائحتها و دخانهاالمنبعث من المطبخ تزيده برودة الجو كثافة.
يستيقظ الجميع ليذهب كل واحد لمدرسته أما جدتي و أمي فتخرجان الى البستان مباشرة لفلاحة الأرض أما زوجة أخي فتبقى في المطبخ لتحضير وجبة الغداء مما ستجلبه أمي و جدتي من خيرات الأرض.
كان ليل الشتاء طويلا جدا و وسائل الترفيه منعدمة. نعود من المدرسة مساء متعبين فنتناول عشاءنا مباشرة ثم نجتمع حول الموقد أو الكانون في ليال ﻻزلت أتذكر رائحة دخانها المنبعث من حطب الغابة الذي كنت أتكفل بشرائه كلما نفذ. فبعد أن تمنحني أمي المال اللازم أتوجه مباشرة الى عمي يوسف زنانرة او'' العافية ''كا كان يُلقب و نذهب سويا الى مصلحة الغابات بجيجل و نملأ الباشي حطبا و أعوادا تكفينا شربرد الشتاء كله. كنا نقضي ليالي الشتاء في ذلك المطبخ ملتفين حول النار يخيل للناظر اننا من المجوس أو عبدة النار و العياذ بالله. كانت كل أحاديثنا نحن الأطفال عن المدرسة أما جدتي ووالدتي فكانتا تحدثاننا عن أيام الجبل ببؤسها و شقائها و حلاوتها أيضا. أما أحمد ابن عمتي الذي كان يزورنا بين الفينة و الأخرى فكانت كل جلساته مزاح و لعب كلعبة الخاتم اوحل الألغاز الي كنا نبدأها بعبارة '' حاجيتك ماجيتك''
موعد النوم كان اختياريا فلم تكن والدتي رحمها الله تفرض قيودا معينة علينا فمن غلبه النعاس فما عليه بالذهاب مباشرة الى سريره أما من يستطيع السهر فله ذلك. و أذكر أن العاشرة كانت موعد الجميع للنوم فمن ذا الذي يستطيع التفريط في دفء و نوم الشتاء. لم يكن هناك ﻻ تيلي كوموند بجانبي وﻻ هاتفا محمولا و ﻻ منبها إنما أذكر أني كنت استعمل كتاب المطالعة كوسيلة للخلود الى النوم.رحم الله تلك الأيام و نهار سعيد.
ترى ما الذي سيفعله ابني شهاب بعد 45 سنة من اﻵن حين يستيقظ على الساعة الرابعة صباحا؟ ماذا سيجد بدﻻ من التيلي كوموند( او الريموت كنترول)؟ ماذا سيتذكر من اﻷيام الخوالي؟ و هل سيكتب شيئا للذكرى؟ في 2045 سيكون عمر شهاب 40 سنة و عمري 87 سنة ان كان للعمر بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق