الجمعة، 12 أغسطس 2011

احنا بكري

    الرفيق قبل الطريق. من أطلق هذا المثل لاشك أنه تعرض لما عايشته انا في رحلتي الى العاصمة بالحافلة في رمضان. لم أختر رفيقي و تلك كانت غلطتي. انطلقت بنا الحافلة المتجهة الى العاصمة على الساعة الحادية عشرة ليلا من محطة المسافرين بجيجل. بدت الحافلة مريحة لأنها كانت جديدة و الحقيقة أن السائق و قابض الحافلة وفرا لنا كل سبل الراحة.
   أخذت مكاني في المقاعد الأمامية و ماهي سوى لحظات حتي ظهر مرافقي او زميلي في المقعد. شيخ كبير بدت عليه علامات الوقار و الاحترام. القى علينا السلام و جلس بعد أن استأذنني في الجلوس بالقرب من النافذة. نهضت و سمحت له بالمرور فجلس و هو يعتذر عن الازعاج. انطلقت الحافلة بعد ان حجز كل واحد مقعده و معها انطلق الشيخ في حديث ذي شجون. و لأني أكره رؤية البحر ليلا لأنه منظره ليلا مرعب و مخيف و يبعث على الرهبة و الوحشةخاصة بين جيجل و بجاية.كنت قد خططت للنوم منذ البداية و لكن الشيخ لم يترك لي الفرصة و لو لإغفاءة قصيرة. و ماإن شغل السائق جهاز التلفاز حتى انطلق الشيخ معلقا على كل مشهد  أوشيئ يراه أو يسمعه.
 كان مرافقي الجديد ناقما على كل الأشياء الحديثة فلا يبدأموضوعا جديدا الا و قابله بنقيضه في الماضي. لا أدري كم مرة قال كلمة " نحن بكري (في الماضي) كنا ..." و لكني ظللت أسمعها حتى توقفت الحافلة في مايو لتناول السحور. حاولت ان أناقشه فيما كان يقول و لكنه لم يترك لي الفرصةمعيبا على جيلي أنه لا يعرف شيئا فقد كانوا "بكري" يعرفون كل شيء و يطالعون جرائد لوموند و لوفيغارو سطرا سطرا صفحة صفحة. حاولت أن أفهمه اننا أيضا لدينا وسائلنا من قنوات إخبارية و انترنت و لكنه رفض ذلك تماما معيبا على شخص مثلي أن يشاهد قنوات مثل روتانا و مزيكا و يلعب الورق على الانترنت. حاولت أن أؤكد له اني لا أشاهد مثل تلك القنوات و لا ألعب على الانترنت و لكنه رفض سماعي طالبا من سائق الحافلة ان يشغل الراديو بدلا من التلفاز فهم "بكري" تعلموا من الراديو كثيرا. رفض السائق طلبه طبعا وقال له ان هذه مسألة حرية فنهره ساخرا منه لأنه تحدث عن أمر لا يعرف قيمته.
"أنتم لا تعرفون معنى الحرية لأنكم لم تضحوا من أجلها. احنا اللي جبناهالكم. و اليوم أصبحتم تحبون فرنسا و تلقون بأنفسكم في البحر لأجلها. نحن بكري كنا نفضل ان نموت جوعا على أن نأكل خبز فرنسا."
حاول أحد الشباب مجادلته فنهره أيضا و توجه الى الجميع متحدثا عن إحدى المعارك التي استشهد فيها جميع من كان معه و بقي هو كشاهد عيان يروي لنا بطولاته. حمدت الله أنه توجه للركاب بالحديث و حاولت أن أغفو قليلا لكنه وكزني في كتفي طالبا مني عدم النوم فقد و صلنا الى مايو.
   نزل البعض من الحافلة فيما بقي الآخرون بداخلها نياما رافضين تناول وجبة السحور رغم أن مرافقي أيقظهم واحدا واحدا " انهض للسحور. نحن بكري لم نكن نفرط في السحور. إنه سنة النبي صلى الله عليه و سلم. نحن بكري لم يكن لدينا شيئا نأكله و مع ذلك لم نكن نفرط فيه لأنه بركة. رفض كل من أيقظهم النزول رغم أن مرافقي المسحراتي ألح عليهم حتى أنه أثار أعصاب بعض الشباب. 
     دخلت مسرعا الى المطعم و اخترت مكانا قصيا خلف عمود و لكن الشيخ بحث عني حتى وجدني و جلس أمامي. "الدنيا تبدلت كثيرا يا ولدي. نحن بكري كنا نتواد و نتراحم و خاصة في شهر رمضان. كنا جميعا فقراء و مع ذلك كنا ندعو بعضنا بعضا للفطور و نزور بعضنا البعض. كانت أبواب منازلنا بكري مفتوحة للجميع فقد يأتي خالك أو عمك أو حتى جارك و يدخل دون استئذان. " حاولت أن أناقشه في موضوع الاستئذان و آدابه الإسلامية و لكنه لم يدع لي الفرصة تماما." نحن يا بني بكري كنا جميعا إخوة. ابن عمي ليس غريبا و هو اكثر من أخي يدخل متى شاء". حاولت مقاطعته و لكن النادل كان أسرع مني. طلبنا السحور فقلت في نفسي هذه فرصة لترتاح أذني قليلا و لكنه لم يتوقف فتحدث عن مقارنة أكل الحاضر بالماضي و البركة التي صارت مفقودة. حاولت أن أمرر له فكرة آداب الأكل و النهي عن الكلام أثناء الأكل و لكنه لم يترك لي فرصة أيضا." نحن بكري كنا نجتمع حول مائدة واحدة غير مختلطة. كنا بكري نخجل أن نأكل أمام والدنا. انظر معي الى تلك الفتاة هناك. لو كانت بنتي لنهرتها .كيف تجرأ على الجلوس أمام والدها و الأكل أمامه؟. نحن بكري لم نكن نفعل ذلك " و يبدو ان الفتاة سمعته فألقت الملعقة على الطاولة بعنف و توقفت عن الأكل. أراد والدها النهوض اليه و لكن زوجته أمسكت بيده و كاد الأمر يتحول الى شجار لولا أني طلبت من الشيخ المحدّث أن يتوقف لأن الأكل قد برد و هو "بكري" لم يكن يتناول الطعام باردا.
            
                                                                                                                            

ليست هناك تعليقات: